استعادة الهوية.. مفتاح باب نهضة الأمم عادل درويش شهد معبد القرية الفرعونية في الجيزة، امس احتفال رأس السنة المصرية الجديدة 6249 بالتقويم الفرعوني، خمسة ايام قبل بدايتها؛ فالأربعاء اول توت Thoth(اولى شهور السنة وتوت هو اله المعرفة والعلوم في مصر القديمة) 12 سبتمبر عام 2007 ميلادية، وهي المرة الاولى التي تشهد فيها مصر احتفالا شعبيا في العصور الحديثة. بمجرد ارسال الصالون المصري خبر تنظيم الحفل بالانترنت، ظهرت مواقع للمصريين، والأجانب من عشاق حضارتهم، تعلن تنظيم احتفالات رأس السنة الفرعونية مساء الثلاثاء 11 سبتمبر في لندن ودبي وباريس ومونتريال وعشرات المدن الامريكية والأوروبية والاسترالية وطوكيو. اكتسبت حركة احياء الثقافة القومية المصرية الفرعونية زخما متزايدا في العامين الأخيرين. تجاوزت حركة الموطنين كسل الحكومة وعجزها عن تلبية حاجات دافعي الضرائب، فتعاظمت الدعوة الموجهة للشعب بالعودة للوضع الطبيعي لجعل اول توت، رأس السنة الفرعونية، العيد القومي الأكبر لجمع شمل الأمة وتأكيد هويتها المصرية الفرعونية. هوية توحد المصريين على اختلاف الأديان وتعدد الأصول العرقية (اغلبية الشعب بجينات وراثية وجدت في الوادي والدلتا من فجر التاريخ؛ وأقليات عرقية وافدة من الجنوب كالنوبيين والامازيغ من شمال افريقيا، والعرب في سيناء، واوروبيين وآسيويين). هناك اعياد مقدسة للمواظبين على شعائر اديانهم وثقافة اجدادهم، كالكريسماس، والباساخ (عيد الفصح)، وعيد الفطر، والنيروز؛ اما العيدان القوميان: رأس السنة الفرعونية، وشم النسيم، فلا يختلف مصريان على انهما للجميع، يوحد الاحتفال بهما ابناء وبنات الأمة المصرية. فرغم تغيير الأمة المصرية لغتها مرتين، وأكثرية شعبها لدينهم مرتين، وإعادة تسمية الاعياد، بقي شم النسيم العيد القومي الأقدم موحدا للأمة لم تتغير فيه عادات المصريين وأهمها أكل الأسماك النيلية المملحة. احتفال الجيزة امس تخللته رقصات وأغاني من النوتة الموسيقية الفرعونية. الاحتفال تاريخيا يستمر خمسة ايام معروفة بالنسيء، تفصل نهاية السنة القديمة (30 مسرى، الخميس 6 سبتمبر) عن مطلع السنة الجديدة، وينزل كل يوم مركب مزين الى النيل، لتكتمل خمسة مراكب في موكب وفاء النيل، فمطلع السنة وإهداء توت المعرفة والخير تأتي مع فيضان النيل؛ ومصر«هبة النيل» كما وصفها المؤرخ هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد. ايام النسيء جزء من اختراع الفراعنة للتقويم الشمسي الدقيق. بناء الاهرام قبل اكثر من 3500 عام يمثل معجزة اجتماع علوم الهندسة المعمارية والرياضيات والفلك. ففتحات جوانب الهرم، هي فوهات قنوات من غرفة دفن الملكة مصوبة بدقة جزء من المليمتر لكل نجم من مجوعة الدب القطبي، لتوجيه الروح عبر احداها، الى نجم تسكنه حسب موقعه بالحسابات الفلكية. ابتكر الفراعنة ادق تقويم لحساب الايام وطول النهار والليل وزاوية شعاع الشمس لمعرفة منسوب مياه النيل وساعات الضوء لتحديد اوقات بث بذور المحاصيل. قسم الفراعنة السنة الى 12 شهرا كل منها 30 يوما، وبقيت خمسة ايام ( وربع بالضبط) النسيء لتكمل الارض دورتها السنوية حول الشمس. غاليلليو غاليلي (1564 1642) اهتدى لهذه الحقيقة، وعاقبه الفاتيكان لذلك، بدراسته واحد من الكتب ال800 التي ترجمها الكاهن ماتينوس من الهيروغلفية الى اليونانية في القرن الثالث قبل الميلاد بتكليف بطليموس الثاني (309 246 ق.م) لتأسيس مكتبة الاسكندرية اقدم جامعة في العالم. كتاب «هرميس: ثلاثية الجلالة» (هرميس الترجمة الاغريقية لتوت المصرية) ضمن اقلية نجت من حرق الفاتيكان كتب الاسكندرية في القرن الخامس الميلادي. وكغاليلليو، ذكر السير اسحق نيوتن (1643 1728) ان العلوم الهندسية والرياضيات الفرعونية القديمة كانت مصدر اهتدائه لنظريات حركة الكواكب وقانون الجاذبية. فترجمة اسرة ميديتشي في فلورنسا عام 1439 لثلاثية الجلالة، وكتابين تبقيا من كنوز المعرفة الفرعونية من الاسكندرية، هو، باتفاق المؤرخين اليوم، القاعدة المعرفية لبداية عصر النهضة والعلوم الحديثة. احياء الثقافة الفرعونية واستعادة الهوية المصرية مبادرة ايجابية في زمن التدهورالحضاري وفقدان الهوية كنتيجة لانحطاط مستوى التعليم تحت حكم العسكر وغزو الثقافات الاجنبية لعقول وقلوب المصريين. ويبدو ان نهضة مصر الثانية بدأت، فنهضة مصر الحديثة الاولى من مائة عام بدأتها مجموعة استاذ الجيل احمد لطفي السيد باشا، وبلغت ذروتها بدستور 1923 العظيم وإنجازات طلعت باشا حرب (1867 1941) الاقتصادية. مصدر الهام النهضة الحديثة الثانية تنبأ به الفيلسوف توفيق الحكيم (1898 1987) في رواية «عودة الروح» التي واكبت استعادة الامة المصرية لروحها في فورة تأكيد الهوية باكتشاف مدفن الفرعون الاشهر توت عنخ آمون 1922 والاستقلال رسميا عن الخلافة العثمانية. بدأت نهضة مصر الثانية بجماعات كحزب مصر الام (تحت التأسيس)، الحزب الليبرالي المصري (تحت التأسيس) والصالون المصري. وتاريخيا صالونات مثقفي القرن 19 المصريين في بيوتهم، كانت القاعدة التي بنيت عليها نهضة مصر الحديثة الاولى من مائة عام، ونرجو ان يكون نشاط الصالون المصري اليوم، تعبيرا عن ظاهرة اعادة التاريخ نفسه لمقاومة المصريين غزوة الجهل والتخلف، وتجاوز حالة الاحباط وفقدان الهوية التي تعم امة وادي النيل. «تحت التأسيس» عبارة لإظهار استمرار منع حكومة الحزب الوطني الاحزاب اعلان تأسيسها رسميا بعد صولات وجولات قضائية في المحاكم مستمرة لعقد كامل. مؤسسو احزاب كمصر الام، من كبار المحامين والمثقفين والأكاديميين، لا يسيرون مظاهرة او يرفعون لافتة احتجاج واحدة فهم لا يؤمنون بالعنف والصراخ، وإنما بإنارة العقول وتهذيب الروح بإحياء الفنون والثقافة. ويبدو ان تثقيف الناس وإحياء فنون الاجداد اشد خطرا من ارهاب الجماعات التي تتاجر باسم الدين وتفتي بإهدار الدماء وتفجير الباصات وتتسلل للبرلمان متسربلة بعباءة المستقلين! قبل مبادرة الصالون المصري، استمرت احتفالات رأس السنة الفرعونية لسنوات خارج مصر في امريكا وكندا واليابان وأوروبا، بجهود معتنقي الديانة الفرعونية القديمة. معتنقو الديانة الفرعونية وتأثير الاهرامات على الحياة، يتجاوز عددهم اليوم ستة ملايين، حسب الاحصائيات الرسمية. والرقم غير دقيق، لأن تدوين الشخص لعقيدته أمر تطوعي في البلدان الديموقرطية. الطريف أن المصريين اقلية ضئيلة بين معتنقي الديانة الفرعونية اليوم، والأكثرية امريكيون وكنديون، يليهم الأوربيون ثم اليابانيون. واعتنقت اغلبيتهم الديانة الفرعونية لتعمقهم في دراسة الحضارة المصرية، ويليهم عددا المنبهرون، اثناء الدراسات الجامعية، بالأصول الفرعونية لكل العلوم، ثم يليهم «مدمنو» السياحة السنوية لمصر، وبعضهم حول بيته الى نسخة طبق الاصل من معبد، او مقبرة فرعونية زارها في مصر. وإذ أتوق لتذوق البلح الزغلول (الأحمر) والجوافة الطازجة القادمة خصيصا من مصر حسب التقاليد الفرعونية في احتفال رأس السنة 6249 الفرعونية في لندن مساء الثلاثاء 11 سبتمبر، اتوجه بالتهاني للأمة المصرية ببشائر عودة الروح؛ ولجميع المصريين، والملايين المتمصرين الذين ابقوا تقليد وفاء النيل والسنة المصرية قائما، كل سنة وانتم طيبون ونتمنى أن تكون سنة 6249 خيرا على مصر، وسلاما على البشرية جمعاء. عن صحيفة الشرق الاوسط 8/9/2007