في بحث مهم بعنوان «الأساس الديني في الشخصية العربية»، ضمن كتاب «الدين في المجتمع العربي» الصادر عن «مركز دراسات الوحدة العربية» في بيروت، يرصد الباحث فرحان الديك تراجعاً لدور الدين في الحياة العامة للعرب المحدثين. ففي النشاط الاقتصادي، باتت الكلمة العليا للربح والدعاية والتنافس من دون الارتكان، في الغالب الأعم، إلى الأخلاقيات الدينية. وفي مجال الحركة السكانية، حسم النزاع بين التصور الأخلاقي الإسلامي ومقتضيات الحياة الاجتماعية، حيث الضغوط الاقتصادية على الأسر العربية، لصالح الأخيرة، ممثلة في تنامي الاتجاه إلى «تنظيم النسل». وفي مجال بناء المجتمع، تراجع دور المؤسسات الدينية في الضبط الاجتماعي والانضباط السلوكي، علاوة على التحدي الذي يواجه الدين من قبل المتابعين لحركة الصراع الاجتماعي، متهمين القائمين عليه بأنهم لم يناصروا، إلا في حالات استثنائية وعبر فترات زمنية متقطعة وأمكنة متباعدة، المضطهدين والمهمشين. كما يرصد هؤلاء تراجع الدور العلمي للدين، وكذلك دوره في حركة المعمار والتشييد، على العكس مما كان سائداً في القرون التي رحلت. ولكن على النقيض من التصور السابق تستمر علاقة المصريين بالدين قوية، لاسيما أنها تسمح له، في كل وقت وأي مكان، بأن يضع بصمته على الحياة الخاصة والعامة. فالشعور الديني من أهم الخصائص التي جعلت المصري مصرياً، فمصر «هي أقدم بلد في الدنيا بأسرها امتلاء بذلك الشعور الديني، ومن طول المدة التي أشرب فيها المصري بوجدانه الديني، أصبح ذلك الوجدان جزءاً من كيانه، يلازمه ملازمة اللون الأسمر لجلده» كما يقول د. زكي نجيب محمود في كتابه «قيم من التراث». ولكل هذا تلعب المؤسسات الدينية في مصر (الإسلامية والمسيحية) دوراً مهماً في الحياة الاجتماعية والسياسية، وهي مسألة أسهبت في شرحها خلال ورشة عمل عقدها في أبوظبي قبل أيام «مركز الإمارات للسياسات» الذي تقوده الخبيرة السياسية الإماراتية د. ابتسام الكتبي. ومن دون إسهاب ممل ولا إيجاز مخل، تأخذ هذه الأدوار عدة صياغات هي: 1- تعزيز القوة الناعمة لمصر إقليمياً ودولياً، فالأزهر هو واحد من أعرق وأهم المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي قاطبة، ويبدو هو المؤسسة العليا عند أتباع المذهب السُّني، على وجه الخصوص، وهم يمثلون الأغلبية الكبيرة من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. أما الكنيسة الأرثوذكسية فهي تقف على رأس مسار في الديانة المسيحية، له عمق تاريخي وتصور لاهوتي وروحي يختلف عن الكاثوليكية والبروتستانتية في الغرب. ويُنظر إلى بابا الإسكندرية باعتباره الزعيم الروحي للأرثوذكس في مختلف أنحاء العالم. كما أن العريق أو القديم من الطرق الصوفية المصرية، له أتباع في شتى أنحاء العالم الإسلامي. 2 - الدفاع عن رموزها وكوادرها ودورها، في وجه السلطة إن اقتضى الأمر، وفي مقابل انتقاد الجماعات المدنية والعلمانية، على خلفية ما تبديه من امتعاض أو اعتراض على بعض مواقف أو قرارات المؤسسات الدينية. 3 - الضغط على السلطة لجني مكاسب، من خلال العمل أحياناً كجماعات ضغط للدفاع عن مصالح أعضائها، كأن يطلب الأزهر مزيداً من المخصصات المالية للتعليم الديني، وتطلب الكنيسة تخفيف القيود على بناء الكنائس. 4 - تكتيل الأتباع للوقوف خلف السلطة، وهذا دور تطوعت به المؤسسات الدينية، بعضه يكون في وقت معارك السلطة ضد تنظيمات متطرفة وإرهابية ومسلحة توظف الدين في الصراع السياسي، وبعضه يكون أيام الانتخابات، أو عند حاجة السلطة إلى إنتاج خطاب ديني مواجه لخطاب الجماعات والتنظيمات السياسية الدينية المتطرفة. وإمعان النظر في السياق العام الذي يحيط بالمؤسسات الدينية المصرية بمختلف أحجامها وأعماقها التاريخية، يجعل من الضروري توسيع وتعميق دراسة أوضاع وأدوار ومهام هذه المؤسسات في ضوء عدة اعتبارات من بينها: 1 - يجب تتبع دور الدين في تشكيل الثقافة السياسية المصرية، عبر أربعة مسارات هي: موقع الدين في تاريخية الثقافة السياسية المصرية، ودوره في تحديد الهوية، وما ينتجه الهيكل التنظيمي للمؤسسات الدينية المصرية من قيم سياسية، وما تنتجه الأفكار الدينية المصرية من قيم ومعارف سياسية، ومستقبل العقل السياسي المصري بين «التمدين» و«التدين»، ودفع الداخل المصري حيال التجديد والتحديث. 2 - هناك عدة عناصر يمكن دراستها على نحو متعمق لدور الدين في تشكيل الثقافة السياسية للمصريين، منها: استخدام الحكام للدين في كسب الشرعية، وتبرير الأوضاع القائمة، ودور الدين في تحديد الهوية المصرية عبر تاريخ البلاد الطويل، وما لعبه الدين في إيجاد هذا الفاصل التاريخي بمصر بين المجتمع والسلطة، وما خلفه الدين في العقلية المصرية من غلبة «الرفض السياسي» على «النقد السياسي»، ودوره في بناء الثقافة المؤسسية لدى المصريين، نظراً لأنه قد توسل بالمؤسسة طيلة تاريخه (المعبد، الكنيسة، المسجد)، وكذلك ما إذا كان الدين قد ساعد المصريين على بناء تصورات في مقاومة السلطة، أو على النقيض، ما تركه، عبر بعض التأويلات والتفسيرات، من سلوكيات سلبية حيال السلطة. 3 - دراسة دور المؤسسات الدينية المصرية في تحديد العلاقة بين الحكم والمحكوم، يحتاج إلى اهتمام أكثر، وعناية أشد، من قبل المؤرخين وعلماء السياسة والاجتماع، بما قد يساهم في تفسير جزء من سلوك المصري المعاصر حيال السلطة. 4 - بعد ثورة يناير تصاعد دور الدين في الحياة السياسية المصرية بشكل غير مسبوق، زاد مع وصول جماعة «الإخوان» إلى الحكم تحت ستار «تطبيق الشريعة» وعطفاً على شعارها «الإسلام هو الحل»، واشتدت ضراوته مع إسقاطها عن السلطة بعد ثورة 30 يونيو 2013، حيث عرض «الإخوان» والمتحالفون معهم المسألة بشكل زائف صورها على أنها صراع ديني، أو مواجهة بين «الكفر» و«الإيمان»! وبالتالي يصبح الدين مدخلاً أساسياً في فهم ما يجري في مصر حالياً، ولو على مستوى الإدراتحادكات المتبادلة بين أطراف التنافس السياسي، بغض النظر عما إذا كان هذا حقيقة من عدمها. نقلا عن " الاتحاد " الاماراتية