مع ارتفاع فاتورة الدعم التي تدفعها الحكومة الكويتية والمقدرة بنحو 5.4 مليار دينار (أكثر من 18.6 دولار) في الموازنة العامة للدولة للسنة المالية 2014-2015، بدأت لجنة تابعة لوزارة المالية دراسة سبل اجراء عملية ترشيد موسعة لما تقدمه الحكومة من دعم في شتى المجالات. وأصحبت هذه الفاتورة تشكل نحو 25% من مجموع النفقات البالغ 21.68 مليار دينار( نحو 74.8 مليار دولار) وهي تساهم في عجز الموازنة البالغ 1.6 مليار دينار، وقد حدد وزير المالية أنس الصالح هدف الترشيد بانه "يعني سحبه فقط من غير مستحقيه". وإذا كانت استراتيجية الترشيد (وفق مصادر مالية) تقضي بخفض الفاتورة بواقع 1.5 مليار دينار سنوياً بدءاً من السنة المالية 2015-2016، أي بنسبة أكثر من 27%، فان السؤال المطروح: من هي الفئات التي سيشملها التخفيض؟.. وكذلك ما هي الخدمات التي تصل الى غير مستحقيها؟.. وكيف ستتم عملية التنفيذ لتحقيق هذا الهدف؟.. واذا كان المواطنون الكويتيون الذين يستفيدون من انفاق الموازنة الكبير على "الرفاه الاقتصادي"، ومعظمهم في القطاع العام، وهم مطمئنون الى أن اجراءات الترشيد لن تشملهم، فهل ستصيب الوافدين الذين يتخوفون من تقليص قيمة الدعم المقدم لهم؟.. مسؤولية القطاع العام يعتبر الخلل السكاني من أخطر العواقب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ولدها نمط النمو الاقتصادي الراهن، ويمثل النمو السكاني صعوبات للإدارات السياسية والاقتصادية في الكويت، وقد تبين أن عدد سكان الدولة زاد 25 ضعفاً خلال فترة 64 سنة، وذلك منذ العام 1950، حتى أصبح حالياً يزيد عن 3.8 ملايين، منهم 1.3 مليون كويتي فقط. أما بالنسبة لسوق العمل، فان عمالة الوافدين تبلغ اكثر من مليوناً و160 الف شخص، وهم يتركزون في القطاع الخاص بنسبة 92.7 %، مقابل فقط 7.3% في القطاع العام الذي يشغل المواطنين، حتى بلغ عددهم اكثر من 400 الف شخص، وهؤلاء يستهلكون معظم فاتورة الدعم عن طريق الخدمات التعليمية والصحية والاسكانية، فضلاً عن المحروقات والكهرباء. وإذا أضيفت نفقات الرواتب والأجور المرتفعة، الى فاتورة الدعم، تشكلان معاً نحو 87 % من الايرادات النفطية، و 75 % من إجمالي نفقات الموازنة. ويلاحظ في هذا المجال، ان الوافدين يستفيدون بشكل خاص من الفارق الناتج عن دعم المحروقات، حتى ان دعم الكهرباء الذي يكلف الدولة نحو 2.5 مليار دينار(8.63 مليار دولار) فان معظمه يعود الى المواطنين المالكين للعقارات التي يؤجرونها للوافدين، مع الماء والكهرباء، الأمر الذي يدل على ان تقليص الدعم على الوافدين لا يحقق الوفر المطلوب، ولا بد من ان يشمل المواطنين في بعض المجالات. ومن هنا جاء تحذير المجلس الاعلى للتخطيط في تقرير رسمي من مستقبل مرعب، مشيراً الى ان الانفلات المالي سينعكس حتماً على الاستقرار السياسي، مما يستوجب تصحيح المسار، مؤكداً على ضرورة مراجعة وترشيد اوجه الدعم ووقف الموافقات غير المبررة على الكوادر الوظيفية في مؤسسات القطاع العام ومنح الامتيازات المالية للعاملين. دول الخليج يبدو أن مشكلة فاتورة الدعم وخطورة تزايدها اقتصادياً واجتماعياً، لا يقتصر فقط على الكويت بل تشمل دول مجلس التعاون ايضاً، وهي تشكو بدورها من ارتفاع كلفة العمالة الوافدة على الرغم من خفض أجورها مقارنة بالأجور التي يتقاضاها المواطنون. لا شك في أن "الاقتصاد الريعي الخليجي" وأجهزة ادارية حكومية متضخمة وصناعات متقدمة كبيرة تقوم على النفط والغاز، قد لعبت دوراً كبيراً على مدار سنين، في استيعاب جزء كبير من الايدي العاملة الوطنية، ولكن مع تضخم ظاهرة البطالة المقنعة في الاجهزة الحكومية والتطور التقني للصناعات الكبيرة، باتت قدرة هذه القنوات على امتصاص المزيد من الايدي العاملة الوطنية محدودة. وهكذا، ينظر إلى سوق العمل الخليجي على أنه احد الافرازات الخطيرة لنمط النمو الاقتصادي الراهن، والتي لا يمكن التعامل معها وعلاجها من خلال الاجراءات التصحيحية التي اتخذتها دول المجلس حتى الآن للتأثير على جانب الطلب، مثل: رفع تكلفة العمالة الاجنبية، تحديد نسب التوطين في بعض القطاعات، تحرير سوق العمالة الاجنبية، دعم رواتب العمالة الوطنية، وهي جميعاً اجراءات خلقت المزيد من التشوهات في سوق العمل، وكذلك من جانب العرض، مثل: تطوير برامج التعليم والتوسع في المدارس والمعاهد الفنية والتقنية، لذلك لا بد من تغيير نمط النمو الاقتصادي الراهن بصورة جذرية. وقد تبين من الدراسات والوقائع، أن معظم الوظائف المتولدة عن نمط النمو الاقتصادي الراهن، تكون ضعيفة الرواتب وتتطلب مهارات محدودة، مما يخلق دينامية متنامية للطلب على الايدي العاملة الاجنبية. وحصلت هجرة كبيرة من بلدان "الربيع العربي" وخصوصاً من مصر وسوريا وتونس واليمن الى بلدان مجلس التعاون الخليجي التي تشهد حركة استثمارات كبيرة في مشاريع صناعية وسياحية وعقارية ونفطية وزراعية، ساهمت بتوفير نحو سبعة ملايين وظيفة خلال السنوات الاخيرة، وقد ذهبت ستة ملايين منها للوافدين، مقابل فقط مليون وظيفة للمواطنين الخليجيين. وتتوقع الخطط الاستثمارية الجديدة في دول الخليج استحداث نحو ستة ملايين وظيفة خلال السنوات الخمس المقبلة، على أن تكون حصة الخليجيين منها نحو الثلث، أي ما لا يقل عن مليوني وظيفة، وذلك على أساس استمرار الحكومات بالتشدد في توفير فرص عمل للخليجيين، وتحسين استراتيجيات العمل، وتطوير مخرجات التعليم وإعادة هيكلة الأجور. وبما أن القطاع الخاص يفتقر الى الحوافز الكافية لتشغيل الأيدي العاملة الوطنية، فان المواطنين يفضلون العمل في القطاع العام حيث تدفع الدوائر الحكومية أجوراً ورواتب مرتفعة واحياناً تكون ضعف مستويات ما تدفعه المؤسسات والشركات الخاصة، وتشكل هذه المشكلة التحدي الكبير الذي تواجهه دول مجلس التعاون، خصوصاً لانها تحمل مخاطر ديموغرافية لجهة طغيان عدد الوافدين على عدد المواطنين. ووفق تقرير أعده "كريديت سويز"، فقد تجاوزت نسبة الوافدين 53 % أي اكثر من نصف سكان الخليج، وتأتي قطر في مقدمة دول مجلس التعاون من حيث نسبة الاجانب الى المواطنين اذ بلغت 86 % ، تليها الامارات 70 %، والبحرين 39.1 % وعمان 28.4 % وأخيراً السعودية 27.8 %، ورغم هذا الرقم المنخفض الا انه يعادل اكثر من تسعة ملايين اجنبي يعملون في المملكة، مع العلم ان القطاع الخاص السعودي قد نما بنحو 700 مليار ريال (حوالي 190 مليار دولار) في العام 2011، وفق معلومات وزير المالية ابراهيم بن عبد العزيز العساف، اي نحو 58 % من اجمالي الناتج المحلي. وأوضح العساف أن ذلك أدى الى ارتفاع عدد العاملين في شركات القطاع الخاص في عام 2012 بما يزيد عن 250 الف عامل سعودي وبنسبة تتجاوز 34 % مقارنة بعددهم في عام 2011، ليتجاوز اجمالي العمالة الوطنية في المؤسسات الخاصة المليون عامل، الأمر الذي يتطلب تسريع وتيرة تنفيذ الاصلاحات الهيكلية الهادفة الى تحسين بنية العمالة. فاتورة الوافدين أظهر تقرير للبنك الدولي ان دول مجلس التعاون الست تستحوذ على 17% من اجمالي التحويلات المالية لليد العاملة في العالم، ويبلغ متوسطها السنوي نحو 70 مليار دولار، وتتصدر السعودية القائمة، اذ يحول العاملون الاجانب فيها الى بلدانهم نحو 27 مليار دولار سنوياً، تليها الامارات بنحو 17 ملياراً، ثم الكويت 12 ملياراً، تليها عمانوقطر بنحو 6 مليارات دولار لكل منهما، وأخيراً البحرين بملياري دولار. ولكن الدراسات الخليجية تشير إلى أن الكلفة الحقيقية للعمالة الاجنبية تتجاوز حجم التحويلات، وهي ناتجة من ثلاثة اصناف رئيسية: تكلفة مصاريف التوظيف التي تدفعها الشركات الى الجهات الحكومية. الاجور والمرتبات والمزايا المدفوعة للعمالة الاجنبية. الكلفة الاجتماعية، وهي تمثل نصيب العمالة الاجنبية من الانفاق على الأمن العام والطرق والبنية التحتية والكهرباء والوقود والتعليم والصحة. ومثال على ذلك فان التكلفة الاقتصادية للعمالة الاجنبية في دولة الامارات تبلغ 98 مليار دولار، وهي تعادل نحو ستة اضعاف التحويلات المالية لهذه العمالة. ويتبين من هذه الارقام التكلفة الاقتصادية الباهظة التي تتحملها الاقتصادات الوطنية الخليجية جراء التضخم الكبير في الايدي العاملة الاجنبية، وتكمن خطورتها في ازديادها المستمر، مما يستوجب تحليلها ودراستها بعناية مقابل المردود الاقتصادي لهذه العمالة، وهو مؤشر على انخفاض كفاءة تشغيل الموارد الاقتصادية. وهكذا تكون الشكوى عامة لدى دول الخليج من ارتفاع التكلفة الاقتصادية للعمالة الاجنبية، لكنها متفاوتة بين دولة واخرى، واذا كانت الكويت تبحث تقليص فاتورة الدعم الاجتماعي. فان الامارات كما يبدو لا تعاني من هذه المشكلة، لذلك يرى نائب رئيس الدولة ورئيس مجلس الوزراء حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد أن "شعب الامارات اثبت للعالم انه من اكثر الشعوب سعادة، بل وتزيد سعادته كل عام، بحسب تقارير الاممالمتحدة. وأكد محمد بن راشد أن الأولوية دائما لقطاعات التعليم والصحة والسكن ومضاعفة التوطين في القطاع الخاص" وموضحاً "أن الحكومة وضعت هدفا خلال السنوات السبعة المقبلة لرفع نصيب الفرد من الدخل القومي الاجمالي، بنسبة 65%،لأن الهدف النهائي لمشاريع التنمية هو توفير الحياة الكريمة للناس، وليس فقط تحقيق مراكز متقدمة في التقارير الدولية". واذا كان حاليا نصيب الفرد الاماراتي نحو 42 الف دولار، فانه سيصل الى نحو 70 الف دولار في العام 2021.