لا تحتاج مدينة بن قردان التونسية الى بوعزيزي جديد ليشعل بجسده فتيل ثورة، فهناك ما يكفي من الأسباب حتى يطلق الأهالي والعاطلين العنان لاحتجاجاتهم في الشوارع. وتعيش المدينة التي تقع جنوبتونس على مداخل ليبيا منذ عدة أسابيع من دون رئتها الاقتصادية المتمثلة في المعبر الحدودي برأس جدير، أحد أكثر المعابر حركية ونشاطا في افريقيا. وأقدم المشرفون على المعبر من الجانب الليبي على غلقه منذ 25 فبراير الماضي ل"أسباب أمنية" وهو قرار كان كفيلا بإطلاق موجة احتجاجات عنيفة في بن قردان المرتبطة اقتصاديا على نحو كلي بحركة العبور في راس جدير. وقال الناشط الاجتماعي شريف الزيتوني بالجهة، لوكالة الأنباء الألمانية د. ب.أ "تسبب الإغلاق في قطع أرزاق ما يقارب خمسة ألاف عائلة، أي ما يقارب 30 ألف إنسان مرتبطين ارتباطا مباشرا بالتجارة الموازية مع ليبيا". وعدا محلات تصريف العملة المنتشرة بين الأزقة المتربة والسيارات المتاجرة بالبنزين عبر ليبيا إلى جانب النشاط المكثف للتجارة الموازية، يندر مشاهدة مصانع أو أي نشاط اقتصادي آخر. وقال الزيتوني "منذ 70 عاما لم تقدم الدولة شيئا لمدينة بن قردان.. فالأهالي هنا يعيشون على الفلاحة التقليدية أو على التجارة الهامشية مع ليبيا". وأضاف: "هناك غياب تام للبنية التحتية على جميع المستويات، لا توجد في المدينة شبكة تطهير رغم العدد الكبير من السكان والأحياء (ما يقارب 100 ألف ساكن) لا توجد شبكة للضغط الكهربائي العالي ما يتسبب في انقطاع متكرر للكهرباء في الصيف". وترقد المدينة التي يبلغ عدد سكانها نحو 100 الف نسمة من بينهم نحو 20 الف عاطل عن العمل، على أزمة مؤجلة منذ عقود. وعلى مدار السنوات القليلة الماضية شهدت الجهة احتجاجات مماثلة في اكثر من مرة حتى في ظل حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي. وتم طرح مشروع لإنشاء منطقة للتبادل الحر منذ سنة 2009 للحد من التهريب والتجارة الموازية عقب احتجاجات اجتماعية في بن قردان ومدن أخرى قريبة مشابهة، ضد قرار السلطات الليبية بغلق المعبر آنذاك، لكن المشروع بقي حبرا على ورق حتى اليوم. ويلقي الأهالي والنشطاء في الجهة باللوم على مؤسسات الدولة لعدم تركيز انشطة اقتصادية ثابتة أو مشاريع تنموية كان يمكن أن تخفف من الارتباط الكامل للجهة مع ليبيا. وقال الزيتوني: "تنتج بن قردان أجود أنواع الملح لكن هذه الثروة الطبيعية تستغلها شركات أجنبية دون أن تربح منها المدينة.. لاتوجد مشاريع سياحية رغم امتلاك المدينة لشريط ساحلي ينتد ل60 كلم ومناطق صحراوية". وأيقظت الاحتجاجات الأخيرة في بن قردان مطالب قديمة لدى اهالي الجهة لا ترتبط فقط بإعادة فتح المعبر ولكن أيضا بتركيز بدائل تلبي الاحتياجات الاقتصادية لبن قردان حتى لا تبقى رهينة المعبر وغياب مؤسسات الدولة القوية في ليبيا. وتعززت هذه المطالب مع تكرر شكاوى التونسيين من سوء المعاملة من قبل المليشيات المشرفة على المعبر الليبي وهو الأمر الذي ولد حالة من الاحباط العام في مدن الجنوب التي استقبلت في عام 2011 مئات الآلاف من الليبيين الفارين من الحرب الدائرة ضد كتائب القذافي وآوت العائلات في بيوتها لأشهر. ويقول سعيد شندول، وهو ممثل عن ائتلاف جمعيات المجتمع المدني ببن قردان ل"د. ب.أ" "القدر الجغرافي لبن قردان هو الارتباط بالمعبر وهو أبرز المنافذ الاقتصادية في العالم، نحن نطالب بحل دائم للمعبر مع ضمانات بحفظ كرامة التونسي، لكن المعبر يظل جزءا من الحل". ويضيف شندول "نتعرض يوميا الى ممارسات مهينة على الجانب الليبي ونسمع الفاظا نابية. كنا ننتظر معاملة بالمثل او الحد الأدنى من المعاملة الاجتماعية". وتوصلت أطراف من المجتمع المدني والقبائل على طرفي الحدود الى اتفاق بإعادة فتح المعبر أمس الاحد، لكن الشكوك ثارت في بن قردان حول مدى جدية الالتزام بهذا الاتفاق الهش في ظل غياب جهات رسمية ترعاه وجهاز نظامي يشرف على المعبر من الجانب الحدودي، وكانت هذه الشكوك مشروعة، وبالفعل لم يتم تنفيذ الاتفاق. وقبل أيام صرح والي الجهة بأن الأوضاع بدأت تخرج عن السيطرة متهما اطرافا بتأجيج الاحتجاجات ودفع المدينة الى الفوضى. وقال الوالي الحبيب شواط إن أطرافا عدة دخلت على خط الأزمة، وبينها مجموعات ترتبط بشبكات التهريب وأخرى بأجندات ومجموعات ليس من مصلحتها فتح المعبر للحفاظ على مصالحها التجارية. وبدأت الرئاسة التونسية منذ أول من أمس السبت بعقد اتصالات مكثفة مع المسؤولين الليبيين لإيجاد حل للمعبر. وأوضح بيان رئاسي أنه تم الاتفاق على إرسال وفد رسمي ليبي رفيع المستوى يقوده وزير الداخلية الليبي لاجراء محادثات مع وزير الداخلية التونسي لطفي بن جدو بهدف تفعيل فتح المعبر الحدودي براس جدير في الأيام القليلة القادمة مع تدارس كل ضمانات حفظ كرامة مستعملي المعبر من التونسيين والليبيين. لكن في انتظار التوصل الى حل، لا يمكن التنبؤ بالمنحى الذي ستأخذه الاحتجاجات في بن قردان وحتى متى ستصمد المدينة مع انحسار النشاط الاقتصادي.