بيروت: أصدر الفنان الكبير منصور الرحباني خمسة كتب دفعة واحدة، جَمَع فيها ثمرة أحاسيس، وأحوالاً وعادات وذكريات، وارتأى أن تكون هذه الكتب شعرية بامتياز وهي: «أسافر وحدي ملكا»، «أنا الغريب الآخر»، «القصور المائية»، «بحّار الشتي» اما الكتاب الخامس فحمل توقيع الاخوين رحباني وهو بعنوان «قصائد مُغناة» ويحتوي على اجمل الاغاني التي غنتها فيروز. نأى «بحّار الشتي» عن باقي الكتب فقد كتبه منصور وفقاً لجريدة "القبس" الكويتية بالمحكية اللبنانية في هذه الكتب تبرز عظمة الشعر في مسيرة الاخوين رحباني، ومنصور النصف الآخر الرحباني الذي ما زال حيا بعد رحيل النصف الاول عاصي، استطاع ان يستعيد الصورة النابضة بالابداع من خلال هذه الاشعار الصافية التي تعكس نبض الابداع الجارح، الذي طال وصال وجال وحطَّ في كل القلوب وفي ذاكرة صلدة لا يمكن ان تغيب. وفي كتاب "أسافر وحدي ملكا" خاطب منصور الانسان والحياة بلغة شعرية استطاع من خلالها جمع التحدي والحماس والحب والرفض والصوت العالي: «يا شعبي .. متحد بالمجد انا، متحد بالموت انا، بالذل بأوجاع الفقراء، ويداك صليبي تنبسطان، من الجولان، الى سيناء». ولا يتوقف عند هذا الحد من الصراخ العظيم، بل يشخّص حركة روحه وهي تتحرك في الايام وفي الاحشاء: «اتكلم لغة، لا يفهمها، الا، الماء، ما انسان في اقصى الارض يموت، الا فيّ يموت». أما "أنا الغريب الآخر" فالكتاب من عنوانه يقرأ، وينعكس هذا المعنى على حسبما ذكرت "القبس" حياة الانسان الذي يعيش في مناخ العذاب والتعب، وتكاد هذه الكلمات تجسد وقائع حياة الامة التي ضاق عليها وطنها فباتت في غربة قاسية، ورغم كل هذا، استطاع منصور تحويل المشهد والصورة وبناء الامل الكبير: «أهاجرُ في شفتيك انسى، كتاب حياتي، محت قُبل الليل وجهي القديم، محت ذكرياتي، تجمع في قبلتين الزمان، فلا هو ماض، ولا هو آت». ويفيض الشاعر اكثر ويتدفق احساسه حتى يصل الذروة: «رسمت على الماء وجهك، من قال، في الماء تمحى الوجوه، سيكبر وجهك، يغدو دوائر يكبر، يملأ وسع البحار...». «القصور المائية» في «قصوره المائية» يبدو الشاعر مثل المياه الجارية، تجري قدما، بسرعة او ببطء، لكنها تبقى سائرة نحو غيابها: «غدا .. كما اليوم يمتلئ هذا الشارع بالعابرين.. وسيمتلئ بعد غد!.. وبعد خمسين عاما.. ستكون جموع تتدافع وصخب وضجيج، انما لا أحد من العابرين اليوم.. سيكون يومها حاضرا». يخاطب منصور شقيقه الغائب عاصي بالمحكية اللبنانية: «يا عاصي: وأنا فقير مثل ما تركتني.. فقير كتير. قديش؟ ما فيك تتصور.. والمحزن انك انت بطلت تحتاج شي.. بس أنا، بعدني هون وبعد عندي احتياجات». كما جمع منصور الرحباني حسبما جاء ب "القبس" في «قصائد مغناة» كل الأغاني التي غنتها فيروز من كلمات «الأخوين رحباني»، وهي بمثابة مفاجأة معرفية للمهتم والمتابع والعاشق لصوت فيروز وأعمال الأخوين رحباني، فثمة من كان يعتقد ان هذه الأغاني هي من الشعر القديم، في حين ان الحقيقة تقول إن هذه الأشعار الموزونة والكلاسيكية هي من صياغة الأخوين رحباني، وهي بالتأكيد أشعار عذبة وزاد من عذوبتها صوت فيروز وألحان الأخوين رحباني، وهذه الأغنيات التي وصل عددها إلى أكثر من ثلاثين أهداها منصور: «إلى فيروز.. قصائد طار بها صوتك فأصبحت شمس الذاكرة». أشعار قالها منصور الرحباني رسمت صورة أخرى للحياة التي أسسها الرحابنة في مسيرة طويلة أغنت الأذواق وكشفت جيداً وقائع الروعة التي تنعم بها البلاد، انها روعة الفن الكامل الصوت واللحن والكلمة اجتمعت في حديقة الأخوين رحباني، كان المجد الفني الذي لا يمكن أن يغيب ولو للحظة عن ذاكرة مستمرة.