حرب بوش الكبرى باسل أبوحمدة لم يكذب الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش حين قال في قمة دول حلف شمال الأطلسي الناتو وروسيا التي انعقدت مؤخراً في بوخارست موجهاً كلامه إلى الرئيس الروسي الخارج من موقع الرئاسة فلاديمير بوتين إن الحرب الباردة قد وضعت أوزارها.
لكنه، وعلى غرار المنهج المتبع في وسائل الإعلام الأميركية القائم على التعامل مع أشباه الحقائق وأنصافها وأرباعها دائماً، أخفى كالعادة الجانب الأهم في صيرورة صراع الجبابرة في الساحة الدولية ممثلاً بالحقيقة القائلة إن الحرب الباردة لم تنته لأن العدل والسلم قد عما العالم، بل لأن حرباً حقيقية اندلعت منذ زمن على مستوى الكون الهدف منها هو فرض واستكمال هيمنة الولاياتالمتحدة على العالم ومقدراته وحتى توجهاته المستقبلية.
وإذا كان بوش قد نسي التاريخ الفعلي لانتهاء الحرب الباردة، فإننا نذكره بأنه مرتبط بتاريخ خروج آخر جندي من جنود الجيش الأحمر السوفييتي من الأراضي الأفغانية بنهاية ثمانينات القرن الماضي إثر حرب ظاهرها حرب عصابات وباطنها حرب كبرى بين أعتى قوتين عسكريتين على وجه البسيطة والتي شكلت أحد الأسباب الرئيسية في انهيار الاتحاد السوفييتي ومن خلفه المنظومة الاشتراكية برمتها.
أصبح معروفاً بعد ذلك الاختراق السياسي الكبير الذي أحرزته الولاياتالمتحدة في ميدان السياسة الدولية أن واشنطن تعمل الآن على تثبيت ذلك الإنجاز عن طريق توسيع ذراعها العسكرية الأوروبية ممثلة بحلف الناتو باتجاه الخاصرة الجنوبية الغربية للاتحاد الروسي، ما أثار حفيظة القيادة الروسية العسكرية والسياسية ووضعها وجهاً لوجه أمام استحقاقات الخسارة التي منيت بها في الحرب الباردة.
ودفعها إلى التفكير ملياً بضرورة العمل جدياً على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من تركة القوة السوفييتية العظمى، التي كانت على بعد خطوات في مطلع ستينات القرن الماضي من إمكانية تحقيق اختراق عسكري مماثل للخاصرة الجنوبية للولايات المتحدة وذلك عندما كانت الصواريخ البالستية السوفييتية محملة على متن سفن حربية تنتظر في البحر الكاريبي قبالة السواحل الكوبية ساعة الصفر للرسو في أحد الموانئ الكوبية بغية تثبيتها في قواعد عسكرية على أرض الجزيرة الاشتراكية، الأمر الذي هدد باندلاع حرب عالمية ثالثة.
قصة الكر والفر هذه لم تعد حبيسة القواعد التقليدية التي قامت عليها الحرب الباردة لعشرات السنين، بل إنها تعدت ذلك كثيراً وبلغت مرحلة كسر العظم على صعيد المحاولات المضنية التي تقوم بها واشنطن لتفويت الفرصة على موسكو لاستعادة بعض من ذلك المجد التليد.
ولقد جاءت عبارة بوتين أثناء إحدى جلسات قمة بوخارست والتي أفاد فيها بأن «الأمن القومي لا يقوم على الوعود» في هذا السياق بالذات، أي في سياق الاختراقات والاختراقات المضادة، التي تشير الوقائع التاريخية على الأرض أن مسيرتها لن تنتهي أبداً طالما أن الأمر يتعلق بالمصالح الكبرى للأمم. ذلك أن الأمن القومي يقوم أولاً وأخيراً على تأمين مصادر قوة حقيقية تضمن ميزان قوى قادر على ترجيح مصالح بلد على آخر أو مصالح مجموعة من الدول على أخرى.
مقولة بوتين تلك ترقى إلى مستوى الدروس التاريخية التي يتعين على الجميع وضعها في صدر أجندته السياسية دوماً بغض النظر عن أحجام الدول وقدراتها العسكرية وذلك حتى يصبح من الممكن فهم الموقع الحقيقي لأي دولة من الدول ضمن المنظومات الأمنية والعسكرية الإقليمية منها والدولية على حد سواء.
على الرغم من أن الولاياتالمتحدة تحظى بما هو أبعد من الوعود في سياساتها الخارجية وتحديداً فيما يتعلق بحماية أمنها القومي،الذي لا حدود له، إلا أن قادتها باتوا لا يكتفون بتلك الوعود التي ترقى إلى مستوى الالتزامات الكبرى للدول الصغرى المنتشرة حول العالم.
للأمن القومي سيادة ومجال حيوي تعمل الدول على تثبيته وتوسيعه وتوضيح معالمه لا على تشويه صورته والتشويش عليه من خلال وعود واهية أو نوايا كاذبة يطلقها هذا الطرف أو ذاك، ولنا في البلدان العربية أن نأخذ مقولة بوتين تلك على محمل الجد، على أن تشكل حافزاً لصانعي القرار في المنطقة باتجاه الوقوف وقفة جادة أمام الواقع المهلهل والمبعثر للأمن القومي العربي والبداية دوماً من معرفة الذات وتحسس موضع القدم والإقرار بأن سيادة الأمن القومي العربي مستباحة حتى النخاع. عن صحيفة البيان الاماراتية 7/4/2008