في لحظة ما وضمن موازين قوى مختلة معينة ينقلب الشر إلى نوع من الانتقام في المقام الأول وتتحول الوسيلة إلى غاية جراء ذلك الخلل، الذي يفتح الآفاق واسعة أمام تمادي وطغيان الجهة أو الجهات المتربعة على عرش كفة الميزان الراجحة والتي لا تتوانى عن اللجوء إلى أي وسيلة كانت لممارسة شرورها وفقا لما تمليه عليها أهواؤها، لأنها الوحيد ة القادرة على القيام بالصولات والجولات التي تريد وترغب على الساحة الدولية، دون حسيب أو رقيب ودون رادع مادي يمنعها أو وازع من ضمير يقنن حركتها.
على الرغم من الميوعة التي ينطوي عليها مفهوم الوسطية وفقدانه للمصداقية في أحيان كثيرة، إلا أن نظرة عاجلة على تاريخ الإنسان تدل بوضوح على وجود حاجة ماسة، في هذه الحالة بالذات، إلى الوسطية عندما يتعلق الأمر بالأسس اللازمة لضبط العلاقات الدولية، التي لا يمكن ضبطها بالمواعظ الأخلاقية وكثرة الكلام عن إنسانية الإنسان والقرية الكونية.
وما إلى ذلك من مقولات وأفكار لا تطرح إلا لذر الرماد في العيون وخدمة لمصالح الطرف الذي تميل كفة ميزان العلاقات الدولية لصالحه والقادر على فرض ما يشاء كيفما يريد وفي الوقت الذي يريد، لتبقى الأطراف المكونة للمجموعة الأخرى من المعادلة تتشدق بالمقولات الطوباوية والأوهام الميتافيزيقية، التي لا طائل منها.
عند هذا المعطف من تاريخ الإنسان الحديث، ظهر مفهوم الردع المتبادل في النصف الأول من القرن العشرين بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، ولقد أسس ذلك المفهوم، القائم على فكرة توازن الرعب، لمرحلة طويلة وحرجة من تاريخ العلاقات الدولية وأعطاها شكلها ومضمونها بامتياز.
ولقد عرفت تلك المرحلة باسم «الحرب الباردة»، القائمة على سباق تسلحي خاضت غماره القوى العظمى آنذاك، لكن اللافت أن تلك الفترة خلت من المواجهات العالمية الحقيقية وسادتها حالة غير مسبوقة من السكينة والهدوء، إلى أن بدأت تظهر بوادر الانهيار المدوي للاتحاد السوفييتي في نهاية العقد ما قبل الأخير وبداية العقد الأخير من القرن العشرين، بحيث يمكن إدراج هذا الحدث التاريخي المفصلي في مصاف الكوارث الكونية الكبرى التي واجهها الإنسان على مر العصور.
انهيار المنظومة الاشتراكية، التي مكنت العالم من حمل صفة التعددية القطبية، وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي، أسس لحقبة مريعة بكل المقاييس في تاريخ الإنسان قوامها الحروب والدماء والغبن والغطرسة، فراح عقد العالم ينفرط كسبحة وأمسكت دفته حفنة من كبريات الشركات متعددة الجنسيات بمصالحها الأنانية الضيقة، وخرج مارد العرقية والطائفية والطبقية من قمقمه وكشر عن أنيابه أكثر من أي وقت مضى، ليدك الأرض وما عليها بكل ما أوتي من قوة الشر العمياء، التي انفردت بالعالم وراحت تدعي لنفسها شرف السهر على رعايته وإنقاذه من نفسه.
كما شهد العالم تراجعا هائلا ليس على صعيد العدالة الاجتماعية والحريات والحياة الديمقراطية فحسب، بل إن الأمر تعدى كل ذلك، على خطورته، وفاق كل التوقعات وصولا إلى طبع قبلة الموت على جبين قضايا قومية عادلة، في مقابل إعلاء كلمة المحتل والغاصب في غير مكان من العالم عموما وفي المنطقة العربية على وجه الخصوص، حيث بات الحديث عن حقوق مثل حقوق الشعب الفلسطيني ضربا من الخيال وحتى المحال، بحيث تحولت قضية هذا الشعب إلى مجرد بند من بنود ما يسمى «الأمن القومي للدولة العبرية».
بما أن العلاقات بين بني البشر عموما والعلاقات الدولية خصوصا تحكمها، بالفعل، موازين القوى القائمة في هذه اللحظة أو تلك، فإن العالم لا يمكن أن ينجو بنفسه بعيدا عن معادلة تكافؤ الفرص في حجم ونفوذ اللاعبين الرئيسيين على الساحة الدولية، الأمر الذي يقود مباشرة إلى ضرورة العودة إلى صيغة التعددية القطبية، التي حكمت العالم أثناء مرحلة يمكن وصفها بالأخطر في تاريخ الشعوب.
وذلك حين تعاونت جميع الأقطاب الدولية وشكلت جبهة عريضة،بغض النظر عن منطلقاتها الإيديولوجية ومشاربها الفكرية لمحاربة المد النازي والفاشي الذي اجتاح أوروبا في النصف الأول من القرن الماضي وتمكنت من إلحاق الهزيمة به ودحر فكره العنصري، ومن ثم انطلقت في عملية مشتركة لإعادة إعمار القارة العجوز في ظل الحرب الباردة نفسها، التي لا شك شكلت رافعة إيجابية جبارة لذلك التعاون الدولي المثمر، الذي ما كان له أن يرى النور بعيدا عن معادلة توازن الرعب.
ما تقدم يفضي إلى نتيجة واحدة مفادها أن شعوب الأرض عموما والمغلوبة على أمرها خصوصا، لا يسعها إلا أن تتقدم بالشكر الجزيل للرئيس الروسي فلاديمير بوتين على قراره الأخير الخاص بوقف العمل بمعاهدة الحد من انتشار الأسلحة التقليدية في أوروبا الذي جاء ردا على خطط الولاياتالمتحدة وجهودها الحثيثة على صعيد درع صاروخية في بعض بلدان أوروبا الشرقية وبمحاذاة الحدود الروسية. شكرا بوتين لأنك تحاول إعادة العالم إلى الوقوف على قدميه، بعد أن ظل ردحا من الزمن واقفا على رأسه بالمقلوب.