من روزفلت إلي أوباما عبدالعظيم حماد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية, يحاول الليبراليون الأمريكيون استكمال الثورة التي قاد الرئيس فرانكلين روزفلت مرحلتها الأولي بسبب الكساد الاقتصادي الكبير, وهي المرحلة التي تعرف في التاريخ السياسي الأمريكي بالبرنامج الجديد, أو الصفقة الجديدة. كان مضمون تلك الثورة هو توسيع دور الحكومة الفيدرالية في توجيه الاقتصاد لمصلحة الطبقات الأفقر, وتوجيه الحياة السياسية عموما نحو توسيع مشاركة الفئات المستبعدة: الأقليات العرقية والمذهبية, والفقراء عموما, وكانت هذه الفئات هي التي تشكل منها ما سمي الائتلاف الانتخابي الكبير الذي دفع روزفلت الي السلطة, واحتفظ به في البيت الأبيض أربع فترات رئاسية متتالية في استثناء وحيد. مضت رئاسة خليفة روزفلت ونائبه هاري ترومان دون أن يستكمل مابدأه سلفه بسبب الانشغال في ترتيب المواجهة مع الكتلة الشيوعية من ناحية, ولأن انفجار الصراع مع هذه الكتلة علي أساس ايديولوجي ساعد القوي والتيارات المحافظة والرجعية في المجتمع الأمريكي علي استعادة نفوذها, وهو ماأدي الي فشل أحد أذكي وألمع الليبراليين الأمريكيين وهو إدلاي ستفيتسون مرتين متتاليتين أمام الرئيس الجمهوري المحافظ دوايت أيزنهاور, وما أدي أيضا الي ظهور تيار المكارثية الذي اضطهد كل صاحب رأي تقدمي في البلاد. بسبب الإرهاب الذي نشرته لجنة النشاط المعادي برئاسة السناتور يوجين مكارثي, وبسبب الجمود الذي اتسمت به رئاسة أيزنهاور, عاد الديمقراطيون للسلطة في البيت الأبيض بدخول أول رئيس كاثوليكي الي المكتب البيضاوي. جون كيندي تحت شعار الآفاق الجديدة, التي افضت رغم ماتعرضت له من نكسات الي صدور قانون الحقوق المدنية تحت رئاسة ليندون جونسون الديمقراطي نائب كيندي وخليفته, غير ان غرق الولاياتالمتحدة في المستنقع الفيتنامي عاد بالجمهوريين الي السلطة مع ريتشارد نيكسون, إلا أن الفساد الأخلاقي في إدارة نيكسون كما ظهر في فضيحة ورتر جيت أعاد الديمقراطيين الي البيت الأبيض بقيادة جيمي كارتر, واعدا باستكمال مسيرة روزفلت وكيندي, ولكن أزمة الرهائن في إيران, والغزو السوفيتي لأفغانستان, وانفجار التضخم, كل ذلك أطاح به لحساب مايسمي بالثورة الريجانية المحافظة. منذ كارتر وحتي بزوغ السناتور باراك أوباما المتنافس الرئيسي علي ترشيح الحزب الديمقراطي حاليا مع زميلته السناتور هيلاري كلينتون تبلور نمط متكرر في اختيار مرشح الحزب, هذا النمط هو ظهور مرشح مجهول قادم من اخر الصفوف, ليفاجئ الديمقراطيين أنفسهم بالتقدم المطرد خطوة خطوة حتي يكتسح منافسيه الأكثر شهرة, وخبرة, والأقوي بين نخبة واشنطن الحاكمة. في عام1976 كان الزعماء الديمقراطيون الكبار يرفعون شعار أي أحد إلا كارتر ذلك الفلاح الذي يحكم ولاية جنوبية زراعية, ولا يكاد يعرفه أحد خارج هذه الولاية, وتكرر الموقف بالكامل تقريبا في عام1992 مع بيل كلينتون الشاب قليل الخبرة القادم من ولاية اركانسو الصغيرة الفقيرة, واستمرارا للنمط نفسه تمكن كل من كارتر, وكلينتون المغمورين قليلي الخبرة من الإطاحة بمنافسهما الجمهوري الذي كان في المرتين يشغل المكتب البيضاوي بالفعل, بوش الأب المنتصر في الحرب الباردة ونائب ريجان ومدير الC.i.A., والسفير السابق في بكين, وأحد أباطرة البترول في حالة كلينتون, وجيرالدفورد رئيس مجلس النواب العتيد, والرئيس المضمد لجراح ووترجيت المستند علي كتف هنري كيسنجر أشهر مستشاري الأمن القومي ووزراء الخارجية الأمريكيين.. بطل إنهاء حرب فيتنام في حالة كارتر. وها هو النمط نفسه يتكرر مع السيناتور باراك أوباما, الذي إن خسر في اخر لحظة امام هيلاري كلينتون في أوهايو وبعدها في تكساس, فإنه لن يخسر المعني, أو الدلالة السياسية للظاهرة التي مثلها, ولارتباط هذه الظاهرة بالنمط المتكرر في المرشحين الديمقراطيين منذ كارتر. الدلالة المقصودة هي أن القواعد الشعبية العريضة للحزب الديمقراطي أكثر راديكالية من قيادات الحزب, بمعني أنها أكثر شوقا الي التغيير الأوسع, وأكثر جرأة علي التجديد من الدوائر العليا المرتبطة بأجهزة ومؤسسات المال, والبحث والإعلام, والأمن والسياسة, بالطبع, لاسيما جماعات الضغط أو مايسمي باللوبي.ويشهد كاتب هذه السطور انه سمع مئات المرات تعبير الحاجة إلي ثورة في انتخابات عام2000. لكن توجد هذه المرة بعض الأسباب التي توحي بامكان النجاح بمعدلات كبيرة, فهناك أولا الوعي الذي اكتمل لدي الأمريكيين بأن إدارة الرئيس الحالي بوش الابن تحولت الي مايشبه التشكيل العصابي الذي سرق إرادة الأمة, وتلاعب بها كذبا وارهابا فكريا لحساب مشروع امبراطوري صبياني هدفه تحويل الدولة الأمريكية الي وكيل للشركات الكبري خاصة لوبي البترول, والمجمع الصناعي العسكري, وهناك أيضا الاحتمال شبه المؤكد بأن تسفر الانتخابات المقبلة عن فوز رئيس ديمقراطي, مع كونجرس ذي أغلبية ديمقراطية, ومن تلك الأسباب أيضا ذلك الاقبال غير المسبوق للشباب الأمريكيين علي المشاركة في هذه الانتخابات مدفوعا بالسخط علي الوضع القائم, والممول الرئيسي لحملة أوباما بمبالغ متواضعة تبدأ من خمسة دولارات. من الواضح أخيرا ان نموذج دولة الرفاه الاجتماعي الأوروبية الجامعة بين العدالة الاجتماعية والحرية السياسية أصبح جذابا لقطاعات آخذة في الاتساع من الشعب الأمريكي, الذي لم يعد يستسيغ أن يعيش ربع السكان في أقوي وأغني دولة في العالم والتاريخ تحت خط الفقر, أو قريبا منه, وأن يطلب مرضاه من أقاربهم إرسال الأدوية, الأرخص سعرا من كندا, لا لشيء إلا لأن البعض لايزال يعتقد أن الفقير مسئول عن فقره. عن صحيفة الاهرام المصرية 3/3/2008