عرضنا في الحلقة السابقة الجزء الأول من المحاضرتين اللتين ألقاهما المفكر الأمريكي اليهودي الشهير البروفسير نوام تشومسكي أيام معهد الدراسات الشرقية والأفريقية بلندن أو نوفمبر الحالي تحت عنوان "لا تغيير في مبادئ المافيا الأمريكية"، وهما المحاضرتان اللتان حذر فيهما من تصور تغيير أهداف أمريكيا والغرب الاستعمارية والآثار المدمرة التي تسببها للعالم بوصول أوباما "المعتدل" للسلطة بعد رحيل مجرم الحرب بوش.
وقد غطينا في الجزء الاول ما قاله تشومسكي عن سياسات الاستعمار الأمريكي مع إيران والعراق وتركيا وأسلوب السيطرة علي الرأي العام الغربي باستخدام عامل الخوف. ونستكمل في هذه الحلقة باقي عناصر السياسة الامريكية:
1- حلف الناتو:
يسترعي تشومسكي النظر الي أن أوباما قد وسع نطاق الحرب في أفغانستان مستخدما حلف الناتو، ويقوم الناتو كذلك بتقوية السيطرة الأمريكية علي منابع النفط، وتستخدم أمريكا الناتو كذلك في إحكام قبضتها علي أوروبا، فمنذ بدايات فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية كان واضحاً ان دول أوروبا الغربية قد تختار سياسة مستقلة عن أمريكا، ولذا عجلت أمريكا بإنشاء حلف الناتو لقمع هذا الاتجاه الاستقلالي لدول غرب أوروبا.
2- بترول الشرق الأوسط: يشرح تشومسكي أن احتياطيات النفط في الشرق الأوسط كان من الواضح انها مصدر هائل للقوة الإستراتيجية، وإحدى اكبر الجوائز المادية في تاريخ العالم، وقد سمي الرئيس الأمريكي السابق ايزنهاور منطقة الشرق الأوسط بأنها أهم منطقة إستراتيجية في العالم.
ولذلك فان السيطرة علي بترول الشرق الاوسط يمكن امريكا من أداة فعالة للسيطرة علي العالم، ويعني هذا بالضرورة أن أمريكا يتعين عليها مساندة أنظمة الحكم القمعية والبربرية في دول الشرق الأوسط ومنع انتشار الديمقراطية والتطور في هذه الدول.
3- الصومال: يشرح تشومسكي موضوع القرصنة الصومالية قائلا ان القرصنة عمل سيد، ولكن من أين أتت؟ يستطرد تشومسكي قائلا أن احد الأسباب المباشرة لهذه القرصنة هي أن الدول الأوروبية وغيرها تقوم ببساطة بتدمير المياه الإقليمية الصومالية بإلقاء المواد السامة والنفايات النووية في هذه المياه كما تقوم بنهب الثروة السمكية الصومالي، وبذلك يجد صائدو السمك الصوماليون أنفسهم دون موارد غذائية فيتحولون الي قراصنة، وعندئذ يعلن الغرب غضبه علي القرصنة، وليس علي الأسباب التي خلقتها!!
ثم يذكر تشومسكي مثلاً آخر من أضرار الغرب المتعمد بالصومال فيذكر أن من أكبر "الانجازات" التي حققتها الحرب علي الإرهاب والتي أشاد بها الإعلام الغربي إشادة كبيرة كان إغلاق منظمة خيرية إسلامية تسمي "بركات" بحجة انها تساند الإرهابيين، وبعد شهرين من إغلاقها اعترفت أمريكا في صمت انها كانت مخطئة وتكتم الإعلام علي هذا الاعتراف.
ولكن كان إغلاق هذه المنظمة ضربة قوية للصومال، فالاقتصاد الصومالي ضعيف للغاية، وكان الجزء الاكبر منه مدعوما من هذه المنظمات الخيرية، ليس بالمنح المالية فقط، ولكن بتقديم خبرات ادارة البنوك والأعمال، كان نشاط المنظمات الخيرية جزءا مهما من الاقتصاد الصومالي ولذلك كان اغلاق هذه المنظمات عاملاً مساعدا في انهيار هذا المجتمع المتنامي في الضعف، ويقول تشومسكي إن هناك أمثلة اخري.
4- دارفور: يقول تشومسكي ان هناك أشياء بشعة تحدث في دارفور، ولكن بالمقارنة لما يحدث في المنطقة كلها فإن ما يحدث في دارفور مع الأسف ليس بهذه الضخامة بالمقارنة لما يحدث في شرق الكونجو مثلاً، ولكن دارفور قضية مهمة بالنسبة لما يسمون الجماعات الإنسانية في الغرب، لأن الجرائم المرتكبة في دارفور يمكن نسبتها "للعدو"، تتلاعب هذه الجماعات بالحقائق ولكنها في النهاية تستطيع توجيه اللوم "للعرب الاشرار" فماذا عن انقاذ شرق الكونجو التي قتل فيها ما يعادل عشرين مرة من قتلوا في دارفور؟
هذا الوضع يشكل مشكلة للإنسانيين في الغرب، لأن الجرائم في شرق الكونجو يرتكبها مرتزقة تسلحهم الشركات عابرة القارات التي تحصل علي الثروات المعدنية التي تستخرج من شرق الكونجو، وهناك حقيقة أخري صارخة، وهي أن رواندا هي أسوأ دولة في إبادة الأجناس بين عملاء أمريكا، ولكنها حليف مطيع لأمريكا!!
5- تقرير جولد ستون عن غزة: يبدو أن تشومسكي يتفق مع إسرائيل في ان تقرير جولدستور متحيز ولكنه يختلف معها جذرياً، إذ يري أن التقرير متحيز لصالح إسرائيل، فقد اقر تقرير جولدستون أن لإسرائيل حق الدفاع عن النفس مع إدانته للطريق التي تم بها هذا الدفاع، ويضيف تشومسكي ان حق الدفاع عن النفس لا يعني اللجوء للقوة العسكرية قبل استنفاد الوسائل السلمية، وهو ما لم تحاوله إسرائيل مجرد محاولة.
ويلفت تشومسكي النظر إلي أن إسرائيل كانت هي التي نقضت اتفاقها مع حماس بوقف إطلاق النار كما رفضت مد العمل به، فاستمرارها في حصار غزة هو عمل عسكري في حد ذاته. وبالنسبة لعملية السلام المجمدة في الشرق الاوسط فإنه رغم النبرة المتشددة تجاه اسرائيل التي يستعملها اوباما مقارنة بنبرة بوش فإن أوباما لم يفعل شيئا لجعل إسرائيل تفي بالتزاماتها، ففي غيبة التهديد بقطع المعونات الامريكية عن اسرائيل فليس هناك سبب يدفع تل أبيب إلي الإنصات لواشنطن.
6- ماذا يمكن لضحايا الغرب عمله: يقول تشومسكي انه رغم كل العقبات القائمة فإن ضغط الرأي العام يمكن ان يجعل هناك فرقا في تخفيف الوطأة، فلابد من الاستمرار في دفع الرأي العام للإيجابية وزيادة نشر المعرفة بالأوضاع، ليس هناك سبب أن نكون متشائمين، فلنكن واقعيين، فعلي سبيل المثال فإن الرأي العام في أمريكا وبريطانيا يزداد معرفة بالجرائم التي ترتكبها اسرائيل، ولذا يزداد تحول الرأي العام ضدها.
وهنا يكمن الفرق الذي يقوم به الرأي العام، فإسرائيل لن تغير سياساتها دون ضغط من الغرب، هناك الكثير الذي يمكن عمله في الدول الغربية وخصوصا أمريكا، ويدعو تشومسكي الي ضرورة اتخاذ إجراءات قانونية في الدول الغربية ضد الشركات التي تخالف القانون الدولي عن طريق التعامل غير المشروع مع إسرائيل مثل رفع دعوي ضد شركة الغاز البريطانية التي تتعامل مع إسرائيل فيما تسرقه اسرائيل من الغاز المستخرج من شاطئ غزة.
وفي نهاية تحليله الكامل لما يسببه الغرب من مآس للعالم يقتبس تشومسكي قول المفكر المشهور انطونيو جرامسكي: "تشاؤم الذكاء وتفاؤل الإرادة". ولا نجد في نهاية هذا التحليل المطول لمفكر يهودي أمريكي شريف ما نختم به عرضه أفضل من تذكير الغافلين في عالمنا التعيس أن الحرية والرخاء لن يسقطا عليهم من السماء، لأن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم.
*عضو اللجنة العليا لحزب الوفد جريدة الوفد 4/12/2009