باكستان والقرارات الخاطئة د. محمد سلمان العبودي لقد ذكرنا في مقالة سابقة، أن باكستان تقاد إلى مرحلة جديدة في تاريخها السياسي وهي مرحلة ستتميز بعدم الاستقرار وبالعنف. وربما تصبح هذه المرحلة بداية لأخطر مرحلة من مراحل تشكل هذه الجمهورية الإسلامية منذ إعلان استقلالها قبل 60 عاما بالتمام.
فقبل أيام سقطت رئيسة الوزراء الباكستانية السابقة بنازير بوتو تحت نيران تفجيرات العنف التي تضرب باكستان منذ بداية هذه السنة بالذات. وهي سلسلة من أعمال العنف التي طالت رجال الأمن والمدنيين والأطفال والنساء والطلاب والطالبات على حد سواء وانتهت برئيسة وزراء سابقة كانت تحلم حتى مساء الخميس الماضي بأن تصبح رئيسة لباكستان انتقاما لدم والدها ذوالفقار علي بوتو.
أما على أرض الواقع فهناك ما يقارب 20 عملية عنف سياسي هزت باكستان فقط في شهر ديسمبر الحالي خلفت مئات القتلى ومئات الجرحى... وعلى رأس هذه العمليات تلك التي قام بها انتحاري فجر نفسه في وسط مسجد مكتظ بأكثر من ألف مصل في أول أيام عيد الأضحى المبارك الذي صادف في باكستان يوم الجمعة 21 ديسمبر الحالي، مخلفا وراءه أكثر من 60 قتيلا و 80 جريحا...
وبالطبع كان المستهدف وزير الداخلية الباكستاني السابق أفتاب شرباو الذي كان يعتبر المسؤول الأول عن مكافحة الإرهاب، والذي نجى من الحادث ولكن أصيب ابنه الذي كان متواجدا بين المصلين. وبتاريخ 23 من نفس هذا الشهر أيضا سقط أكثر من تسعة مدنيين وأربعة من الجنود لقوا هم أيضا حتفهم عندما فجر انتحاري نفسه أثناء مرور عربتهم بعد عملية عسكرية.
وبالأمس أضيفت إلى قائمة ضحايا العنف السياسي في باكستان وفي شهر ديسمبر الحالي أيضا رئيسة الوزراء السابقة مع عدد قد لا يقل عن 30 آخرين ذهبوا معها إلى نفس المصير وضحية لنفس العنف المريع.
نحن لم نتحدث عن الأشهر الدموية الأخرى لعام 2007.. ولم نذكر ضحايا الأعوام التي سبقت، وهي أعداد متزايدة تكفي لتشكل هرما يشبه هرم خوفو. ولا نستطيع التحدث عن الأيام القادمة، وهي أيام بلا شك ستكون أكثر دموية وأكثر عنفا. فأنصار بنازير لن يسكتوا. وجماعة نواز شريف هم أيضا لن يترددوا في اقتناص الفرصة السانحة.
وأنصار برويز مشرف لديهم وسائلهم الخاصة للدفاع عن النفس. وهناك منظمات إسلامية داخلية وخارجية أخرى تملك ألف حجة وحجة للتدخل في شؤون باكستان، تلك الدولة الإسلامية الوحيدة التي تملك سلاحا نوويا قابلا للتطوير ليكون قادرا على التهديد بضرب إسرائيل إذا ما حكمها في يوم ما مسلمون متطرفون على شاكلة أحمدي نجاد في جمهورية إيران الإسلامية. لقد اختار رئيسها برويز مشرف - مكرها أو مختارا - فريق بوش ضد الإرهاب.
وهذا خطأ ما كان ليقع فيه لو أنه وضع حساباته بناء على منطق سليم وبعد نظر. وربما من هنا جاءت الضربة القاضية. ولم يعلم بأن لعنة بوش سوف تطارده كما طاردت كل من وقف معه في حربه ضد الإرهاب.. وهكذا خسر العديد من المزايا في الداخل ولم يحقق شيئا من الخارج.
ولا نعرف كيف يضع الزعماء السياسيون في باكستان حساباتهم على أرقام مضللة. فبنازير بوتو قررت العودة إلى باكستان في وقت خطأ، وذهبت للدعاية لحزبها في مكان خطأ رغم تحذيرها منه قبل ذهابها إليه، خاصة وأنها كادت تلقى نفس المصير عند أول حطة قدم لها على الأراضي الباكستانية، وأن الأفكار العلمانية التي كانت تحلم بتطبيقها في باكستان لا تتماشى مطلقا مع الفوضى الداخلية في باكستان، وربما كان قبولها بالدعم الأميركي لها أكبر أخطائها، وتجاهلت أنه جيء بها لاستخدامها كدعاية ودعامة لنظام مشرف، فأصبحت الضحية.
والرئيس الباكستاني برويز مشرف بدوره يعلم حق اليقين بأن سياسة الرئيس بوش في محاربة المسلحين الإسلاميين والمد الإسلامي (وليس الإرهاب كما يدعي) فشلت وانعكست على شعبيته رغم الضجة الإعلامية التي صاحبت سياسته تلك.
مع هذا أخطأ حين قرر أن يقف دون أي دعم خارجي في مواجهة التسونامي الإسلامي المتنامي في باكستان والدول المحيطة بها. وأعطى خطأ الإشارة الخضراء لضرب المسجد الأحمر.
وكانت أمامه عدة خيارات قد تجنبه أي محاولة اغتيال حقيقية، وكان عليه أن يفهم جيدا بأن الذين حالوا قتله مرات عدة وفشلوا وحاولوا قتل بنازير بوتو وفشلوا لن ييأسوا رغم الحراسات المتشددة، وقد نجحت المحاولة الثانية فقط مع بنازير فهل سيتركه المتشددون من أعدائه ينام قرير العين بعد اليوم؟
لقد كان على برويز مشرف أن يحسب للتاريخ الباكستاني الذي قام على الأسس الإسلامية منذ استقلالها ألف حساب، ويتعامل مع هذا التاريخ من هذا المنطلق. وكما أشرنا من قبل فإن تسمية باكستان بهذا الاسم (البلد الطاهرة) وانفصالها عن الهند الهندوسية قائمان على هذا المبدأ ولهما أثرهما في نفس الشعب الباكستاني منذ تلك الحقبة.
غير أنه اختار خطأ المواجهة الصعبة مع الفريق الأكثر تشددا والأكثر تنظيما ودعما وتناميا. وبذلك ساهم بشكل خاطئ وعلى (الأرض الطاهرة) في ازدياد الفوضى الدموية التي تطحن باكستان يوما بعد آخر منذ الثمانينات من القرن الماضي. صحيح أنه لا أحد يتفق مع الاستسلام أمام أي نوع من أنواع التطرف الذي يستخدم العنف في فرض كلمته.
ولكن عندما لا نملك التكتيك الجيد ولا القوة الكافية لمواجهة مثل تلك التيارات المدمرة، فالحل الأمثل يكمن في مثل هذه الحالة في التعامل بموضوعية مع المشكلة؛ الانسحاب من الميدان بشكل مشرف. وسوف يجد مشرف نفسه بعد قليل في أكثر المواقف حرجا بعد أن قرر حزب نواز شريف إثر مقتل بوتو الانسحاب من الانتخابات المقبلة. وهذا الانسحاب هو أيضا خاطئ.
فهذا القرار بالتأكيد لن يساهم في تهدئة النفوس المتحمسة للمواجهة وسيقذف بباكستان في دوامة من الصدامات الدامية المستمرة بين أحزاب تكاد تتفق جميعها على أن باكستان تقع بين ثلاثة محاور تشكل مجتمعة خطرا يهدد كيانها برمته: الهند وأفغانستان وإيران.
فالهند تريد إضعاف شوكة هذه الدولة العدو اللدود منذ أن استقلت، وحركة طالبان وتنظيم القاعدة تبحثان لهما في باكستان عن موضع قدم متقدم جغرافيا تقلب من خلاله أوراق الولاياتالمتحدة رأسا على عقب في المنطقة برمتها، أما إيران فإنها تشكل تلك البراميل النفطية المؤقتة المتوقع انفجارها في أي لحظة، وأول ضحاياها سيكونون من بين جيرانها امتدادا من الخليج إلى باكستان، إذا ما وضعنا في الاعتبار نسبة الشيعة الباكستانيين والأفغان في باكستان نفسها. وأن هذه القوى لها جيوش كامنة على أرض باكستان نفسها وفي مواقع مختلفة انتظارا للحظة الحسم.
لقد تخلصت المنظمات (الخارجية والداخلية) أو الأحزاب والفرق (وهي طبعا داخلية مائة بالمائة) من رأس أحد الأقطاب المتنافسة على حكم باكستان.
وهناك رؤوس سوف يطاح بها متى سنحت الفرصة. وكنا شاهدنا فقط الوجه المسالم للشعب الباكستاني على مدى عقود من الزمن، ولكننا سوف نرى قريبا الوجه الآخر الذي يتسم بالعنف والطائفية والحزبية. لقد أصبحت الصورة أكثر وضوحا رغم دمويتها، وأكثر تعقيدا رغم بساطتها.
فالخلافات ما بين أقطاب النزاع تكاد تكون واهية، فكل منهم يدعو إلى الديمقراطية والشورى وكل منها يخطط لتنمية البلد اقتصاديا أمام التدهور الذي تعاني منه البلاد والكل متفق على أن باكستان يجب أن تكون بمنأى عن العنف. لذا لا نعرف ما هو ذلك الخلاف الحقيقي الذي يستدعي كل هذه الفوضى؟ لا أحد يعرف.
في نوفمبر عام 1970 ضرب شرق باكستان (بنغلاديش حاليا) إعصار بوهلا الشهير، والذي خلف في غضون ساعات قليلة أكثر من 000 .500 قتيل. ودفع وقتها الرئيس الباكستاني الراحل يحيى خان الثمن الذي اتهمته المعارضة بالخطأ في تقدير حجم الكارثة، وانتهى الأمر بانفصال بنغلاديش عن باكستان.
واليوم هناك إعصار آخر من نوع أكثر خطورة، قد يستمر لفترة زمنية أطول بكثير، ومن المؤكد أنه سيخلف ضحايا أكثر من إعصار بوهلا، ولا نعرف من سيدفع ثمن خطأ قيادي السياسة في باكستان؟
والخوف أن لا يتم حل الأزمة في باكستان في يوم من الأيام بتقسيمها إلى كانتونات يحتفظ كل حزب فيها بإقليم يضم مؤيديه!
هل نحن أمام بدايات فوضى عراقية إسلامية في باكستان؟
لا نعرف أيضا. ولكنه في كل الأحوال إن حصل فهو نتيجة حتمية لخطأ الساسة في تقدير المشكلة مع خطئهم في اختيار الحل! عن صحيفة البيان الاماراتية 30/12/2007