موريتانيا عازمة على استعادة أبنائها العربي مفضال تستعد القيادة السياسية الموريتانية الجديدة لتنفيذ واحدة من أكبر العمليات التي التزمت بها خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، واعتبرتها العربون الأساسي للتمسك بالوحدة الوطنية والسعي إلى تعزيزها، ويتعلق الأمر بعملية إعادة أبناء موريتانيا الزنوج الذين تم إبعادهم نحو السنغال سنة 1989. وكان سيدي ولد الشيخ عبدالله، وهو يخوض غمار السباق الرئاسي في الربيع الماضي، قد تعهد بإعادة المبعدين في أقرب وقت ممكن. وتعزز هذا التعهد بعد تحالف ولد الشيخ، في الدور الثاني من السباق الرئاسي، مع المعارض الشهير مسعود ولد بولخير على قاعدة هذا المطلب ومطالب أخرى تندرج في سياق تدعيم الوحدة الوطنية، وتوطيد التماسك الاجتماعي. وعلى هذا الأساس، بادر الرئيس الموريتاني الجديد مبكراً إلى إعلان الوفاء بما تعهد به، وفاجأ الكثيرين، بعد أقل من شهرين على تنصيبه، بتوجيه خطاب رسمي في التاسع والعشرين من يونيو/ حزيران الماضي، أعلن فيه مسؤولية الدولة عما لحق من ضرر وأذى بجزء من مواطني البلاد في نهاية ثمانينات وبداية تسعينات القرن المنصرم، وقدم باسم الجمهورية مواساته لكافة الضحايا، وجدد العزم على إرجاع المبعدين وإحقاق حقوق الضحايا. وفاجأ الرئيس ولد الشيخ الكثيرين ثانية عندما توجه إلى السنغال، بعد مرور عشرة أيام على الخطاب الشهير، للتباحث مع سلطاتها في مستلزمات إعادة المبعدين الموريتانيين إلى ديارهم. وبموازاة التحضيرات التي قامت بها السلطات الموريتانية، باشرت المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة اتخاذ التدابير الضرورية التي يتطلبها اشرافها المباشر على عملية إعادة المبعدين الموريتانيين، من إحصاء لهؤلاء المبعدين، وحصر للراغبين منهم في العودة إلى بلادهم، وتوفير متطلبات الاستقبال، ومستلزمات الإدماج. وعلى الرغم من أن زنوج موريتانيا دفعوا الثمن الأغلى لأحداث ابريل/ نيسان ،1989 فإنهم لم يكونوا الضحايا الوحيدين للاصطدامات التي أثارها احتكاك محدود بين مربي ماشية ومزارعين موريتانيين وسنغاليين قريبا من نهر السنغال. وما كان لمثل هذا الاحتكاك المألوف بين الفئتين المذكورتين حتى على صعيد الوطن الواحد، أن يؤدي إلى اندلاع الحريق واتساعه لولا تحريض المحرضين، الذين كان في مقدمتهم، الرئيس الحالي وزعيم المعارضة يومئذ عبدالله واد. وقد التهم الحريق آلاف الموريتانيين الذين كانوا يمتهنون التجارة الصغيرة، ويمتلكون الدكاكين في الأحياء الشعبية، ويلعبون دوراً كبيراً في تأمين السلع الغذائية وفي إقراض السكان. وبعد أن تعرض هؤلاء للاعتداء والنهب، امتد الحريق إلى موريتانيا والتهم السنغاليين فيها والزنوج من أبنائها وحملة جنسيتها. وفي الوقت الذي كان فيه الموريتانيون يعادون أو يبعدون إلى بلادهم من السنغال، كان السنغاليون المقيمون في موريتانيا وعشرات الآلاف من مواطني هذه الأخيرة الزنوج يأخذون الاتجاه المعاكس طوعاً أو غصباً. واضطر أغلب المبعدين الموريتانيين إلى الإقامة في مخيمات للاجئين في السنغال ومالي، وعاش معظمهم على المساعدات الانسانية الدولية. وإذا كان ما تعرض له زنوج موريتانيا سنة 1989 حاضرا في المحاولة الانقلابية التي اتهم فيها سنة 1991 عدد مهم من العسكريين الزنوج في الجيش الموريتاني، فإن المذبحة الرهيبة التي تعرض لها هؤلاء اثر ذلك عمقت المأساة الموريتانية وأضرت كثيراً بالوحدة الوطنية للبلاد، وحرمت هذه الأخيرة من طاقات وكفاءات هي في أمس الحاجة إليها. ومن المعروف أن زنوج موريتانيا الذين يتوزعون بدورهم على عدة إثنيات، ويمثلون خمس سكان البلاد تقريباً، استفادوا، خلال المرحلة الاستعمارية الفرنسية، أكثر من بقية أشقائهم، من التعليم العصري الفرنسي. وتحقق لهم ذلك بفضل انفتاحهم وضعف مقاومة تقاليدهم، وبفضل التشجيع والتحفيز الاستعماريين اللذين يتجهان غالباً إلى الأقليات السكانية. وبالنظر إلى ما سبقت الإشارة إليه فقد كان حضور الزنوج الموريتانيين قوياً على صعيد الكفاءات والكوادر المدنية والعسكرية. وعلى الرغم من مرور أكثر من ثمانية عشر عاماً على إبعاد قسم من أبناء موريتانيا. وعلى الرغم كذلك من صدور قانون للعفو في بداية تسعينات القرن المنصرم يسمح لمن يرغب بالعودة إلى البلاد، وعلى الرغم أيضا من عودة عدد مهم من هؤلاء، بصفة فردية، سنتي 1997 و،1998 على الرغم من ذلك ظلت قضية المبعدين الموريتانيين تمثل شرخاً حقيقياً في الوحدة الوطنية للبلاد، عجز نظام الرئيس السابق معاوية ولد الطايع عن إيجاد حل حقيقي لها يسمح برد الاعتبار للضحايا، وبإعادة حقوقهم إليهم، وبتأمين اندماجهم في النسيج الاجتماعي لبلادهم. وقد تبين أن معالجة سليمة للقضية المذكورة ما كان لها أن تنطلق إلا في سياق تصحيح متكامل للوضع الموريتاني يروم إعداد البلاد ونخبتها وعامة مجتمعها لمواجهة متطلبات النمو والتقدم. ولقد أنجز جزء من هذا التصحيح خلال المرحلة الانتقالية الممتدة من اسقاط الرئيس ولد الطايع في أغسطس/ آب 2005 إلى انتخاب وتنصيب الرئيس ولد الشيخ في الربيع الماضي، ويتوالى اليوم إنجاز بقية أجزاء التصحيح المشار إليه. وعلى الرغم من أن موضوع معالجة قضية المبعدين الموريتانيين عرض على الملأ في عدة مناسبات، خلال الحملات الانتخابية، وفي خطاب الرئيس، وتحت القبة البرلمانية، وفي المحادثات الرسمية مع الجيران، وفي اللقاءات مع ممثلي المبعدين، فإن أهمية الموضوع وحساسيته، اقتضتا، مرة أخرى، عرضه على استشارة واسعة أسهمت فيها مختلف الفاعليات والحساسيات السياسية والمدنية في الثالث والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني المنصرم. وإذا كانت الاستشارة الأخيرة، التي ساهم فيها حوالي ألف مشارك، قد بلورت عدداً مهماً من التوصيات المتعلقة بأسس معالجة قضية المبعدين، وبتصنيف هؤلاء وبالصيغ التنظيمية التي يتعين اعتمادها في الإعادة والاستقبال والتعويض والادماج، فإن الأهمية الكبرى لتلك الاستشارة تمثلت في وضع الرافضين في حجمهم الحقيقي الصغير، وفي كشف تهافت ولا واقعية ما يستندون إليه. وهكذا، فقد بدا موقف الرافضين لإعادة زنوج موريتانيا إلى بلادهم وتعويضهم ضعيفاً، عندما ربط هؤلاء الرافضون بين تلك الإعادة و"هجرة الأجانب"، وعندما اشترطوا إعادة ممتلكات الزنوج إلى أصحابها بتعويض الموريتانيين الذين نهبت تجارتهم في السنغال. ويتبين من هذا الاشتراط أن بعض الموريتانيين ما زالوا يعتبرون أشقاءهم الزنوج سنغاليين. أما الذين تمسكوا بمحاكمة المسؤولين عن إبعاد زنوج موريتانيا، فقد أجابهم ممثلو هؤلاء الأخيرين بأنهم يجهلون الواقع الموريتاني ويحولون من دون وضع حد لمعاناة من يزعمون الدفاع عنهم. ومقابل هذين الصوتين الخافتين والمتلعثمين والمرتبكين تتجه معظم فاعليات موريتانيا ليس فقط إلى دعم معالجة واقعية لقضية المبعدين، بل تتجه كذلك إلى المساهمة في هذه المعالجة ببلورة الاقتراحات، وتقديم التوصيات. عن صحيفة الخليج الاماراتية 3/12/2007