تبلغ السياسة الأميركية النخبوية ذروة كمالها وفعاليتها عندما تنجح في جعل الطرف المقابل انعكاساً لها، وصدى لصوتها، بينما هو يتوهم العكس معتقداً أنّه مفاوض مستقل بكيانه وصوته، وهذا ما تجسّده اليوم بوضوح سلطات فلسطين والعراق المحلية، التي تفاوض الإسرائيليين والأميركيين لإقناعهم! أو إرغامهم! على القبول بما لا يريدونه ويتظاهرون برفضه، بينما هم يريدونه، لكنهم يسعون إلى تحقيقه في لحظة قادمة مواتية يصبح فيها محصّناً ضدّ الفشل والانتكاس!
إنّ سياسة إقناع الخصم باستقلاله بينما هو ليس مستقلاً، وإقناعه أنّه يسعى إلى ما يريده بينما هو يسعى إلى ما يريده خصمه، هو أسلوب ورثه الأميركيون عن آبائهم الإنكليز، أسلوب النخب المسيطرة ثقافياً وسياسيا واقتصادياًً، الذي مورس أولاً ضدّ الشعبين البريطاني والأميركي منذ نهض النظام الديمقراطي في بريطانيا وفي الولاياتالمتحدة، حيث عامة الناس دأبت على انتخاب ممثلي النخبة الديكتاتورية بينما هي تتوهّم أنها تنتخب ممثّليها، وتتوهم أنّ الحزبين المتنافسين مختلفان بينما هما متفقان، بل هما مجرّد أداة تحرّكها النخبة المستبدّة، ثم مورس هذا الأسلوب الديمقراطي في التعامل مع الشعوب الأخرى المستعمرة وشبه المستعمرة!
على سبيل المثال، تحاول النخبة الديكتاتورية، المسيطرة عالمياً أيضاً، إقناع شعوب الأرض جميعها أنّها معنية ومدعوة لمعالجة الأزمة العالمية الحالية، وذلك بدفع تكاليفها الباهظة، فيستجيب ممثلو هذه الشعوب، وينخرطون في مؤتمرات ومفاوضات هدفها الحقيقي معالجة أزمة النخبة، وإنقاذ هذه النخبة، بينما هم يتوهمون أنهم يعالجون أزمة الشعوب ويعملون على إنقاذها، إن لم نقل أنهم متواطئون!
إنّ هذا الاتجاه الاحتيالي الإجرامي يبدو واضحاً في الولاياتالمتحدة أكثر من غيرها، حيث المصارف وشركات التأمين وشركات السيارات تحاول تعويض خسائرها المفتعلة من أموال دافعي الضرائب، أي من الشعب عموماً، فقد بلغت خسائر شركة جنرال موتورز في ميدان صناعة السيارات أكثر من عشرين مليار دولار خلال هذا العام (2008) ولكن كيف لا يكون حالها كذلك والراتب السنوي لمديرها يبلغ 2,2 مليون دولار؟
أما الشعب الأميركي فسوف يهرع لنجدة سادة جنرال موتورز بعد أن أقنعوه ديمقراطياً أنّه ينجد نفسه، وبعد أن جعلوا السيارات عصب حياته الخاصة والعامة، فهو يستهلك لتحريكها أكثر من 10 ملايين برميل نفط يومياً، أي أكثر من إنتاج السعودية بكامله! وقد نقل الدكتور عادل سمارة عن مؤرخين أميركيين أنّ المدن الأميركية باتت مقولبة على نحو يجعلها غير قادرة على الحياة إذا ما توقفت حركة السيارات فيها لأيّ سبب!
وأنّه لا حول ولا قوة للسائر الأميركي على الأقدام في معظم أرجاء الولاياتالمتحدة! وأنّ السيارة هي أعظم رمز معاصر للحرية الأميركية، فهي رمز قوي لما يجعل أميركا أعظم بلدان العالم وأكثرها حرية! (نشرة كنعان الإلكترونية/2/12/2008) أي أنّ الشعب الأميركي يتصدّى للأزمة، ويحاول معالجتها متوهّماً أنّه يعالج أزمته بينما هو يعمل في الحقيقة والواقع على إنقاذ النخبة الديكتاتورية من أزمتها!
إنّ الإشارة إلى نخبة صناعة السيارات تستدعي تلقائياً الإشارة إلى نخبة صناعة النفط، فهذه النخبة الأميركية واجهت أزمة عويصة في بلادها نتيجة فشلها في السيطرة التامة على العراق، حيث لم تنجح في وضع اليدّ على إنتاج النفط من الاحتياطي المحقق، بينما هي كانت تتطلع للوصول بالراحة، وخلال سنوات قليلة، إلى الاحتياطي الهائل غير المحقق بعد، والمقدّر ما بين 300- 450 مليار برميل، فكان هذا الفشل أحد الأسباب الرئيسية في أزمة النخب العالمية التي نشهدها اليوم، حيث راح الاحتكار النفطي يغطي نفقات الحرب الهائلة الضائعة من أموال الأمم الأخرى ومنها أمته الأميركية، دون أن يتورع عن عدم المساهمة في هذه النفقات وعن جعل شركاته في منأى عن الأزمة إلى حدّ كبير.
وهاهو يفاوض الحكومة العراقية التي شكّلها، أي يفاوض نفسه، ويسعى للوصول إلى اتفاق معها حول مصالحه النفطية في العراق، أي الاتفاق مع نفسه، غير آبه لتفاقم الأزمة في بلاده وفي جميع بلدان العالم، وغير آبه لخروجه من البيت الأبيض وإن على مضض، بل آبه فقط وبكلّ قوته لمصالحه النفطية، التي يقدّمها على مصالح بلاده عندما يضطر للمفاضلة بينهما، وهاهما بوش وتشيني، ومن ورائهما شركات النفط وفي مقدّمتها هاليبرتون وسيفرون، يسعيان سعياً محموماً لضمان مصالحهما في العراق والخليج العربي عموماً، بتمرير "الاتفاقيات" قبل انتهاء ولاية الإدارة الأميركية الحالية التي يسيطرون عليها.
وكانت مصادر الأخبار قد ذكرت قبل أكثر من عام أنّ شركة هاليبرتون تعمل على نقل مقراتها القيادية من الولاياتالمتحدة إلى دبي، وقد قرّرت ذلك في تلك اللحظة التي أعرب فيها 60 في المائة من الأميركيين عن رغبتهم في الانسحاب من العراق، فما كان من هاليبرتون، التي يمثلها تشيني نائب الرئيس، إلاّ أن أدارت ظهرها للشعب الأميركي متوجهة إلى دبي!
وجدير بالذكر أنّ "المجموعة الأميركية للخدمات النفطية/هاليبرتون" تأسست عام 1919، وأنّ نشاطها يشمل نحو سبعين دولة، وبلادنا العربية النفطية تشكّل مجالها الحيوي الرئيسي الخصب، وقد نجحت في إقناع حكومات هذه البلدان منذ زمن بعيد أنّها تتفاوض معها، بينما هي في الحقيقة تتفاوض مع نفسها، وفي إقناعها بأنّها تتفق معها، بينما هي في الحقيقة تتفق مع نفسها!
يقول تقرير صدر مؤخّراً عن مركز يدعى "بيت الاستثمار العالمي/غلوبل" أنّ 60 في المائة من احتياطيات النفط العالمية موجودة في المنطقة العربية، وأنّ المؤكّد منها يبلغ 742 مليار برميل، تزيد قيمته على 37 تريليون دولار تعادل 88 في المائة من القيمة الرأسمالية الدولية! ويقول التقرير أنّ الاستثمارات الدولية سوف تتجه لتوطين أموالها في أسواق المنطقة العربية، حيث متانة النظم المالية، وضآلة تعرّضها للأخطار، وتركيزها على الأنشطة المصرفية الرصينة..الخ!
أي أنهم،باختصار، يعتبرون بلادنا مكتظة بالنفط والنقود النفطية من جهة، وشبه خالية من السكان من جهة أخرى، فمئات الملايين العرب لا علاقة لهم بالنفط وبالنقود النفطية في بلادهم، وبالتالي فإنّ النخب العالمية تستطيع هنا أن تتفاوض وتتفق مع نفسها تماماً، حيث تنعدم المسؤوليات والأعباء الاجتماعية التي لا مفرّ من مراعاتها في بلادها وفي معظم بلاد العالم الأخرى، وحيث تستطيع من هنا التحكّم بشبكة أعصاب العالم أجمع، التي تتحرّك بالنفط وبالنقود النفطية!