كثيراً ما يتردد لدينا مثل شعبي ليبي يقول( اكره ولا تبلي ) ورغم بساطة هذا المثل،إلا إنه يحمل بطياته معاني إنسانية سامية جداً، وقد يتساءل البعض، وأين هي تلك المعاني السامية بهذا المثل الشعبي الذي يدعو للكراهية والبغض؟!!!.. فعلا فهذا المثل يقول( اكره )، ولكن ليس بفعل الأمر، إنما بالتخيير، بمعنى إن أحسست أو أردت أن تكره فلك ذلك، ولكن ليس لك الحق مطلقاً في أن تبتلي على من تكره، وهنا يكمن بيت القصيد، ومربط الفرس، وعظمة المثل، فالكراهية والحُب هما بالأصل وجهان لعملة واحدة، وكلاهما شعور إنساني، إحدهما نبيل والآخر عكس ذلك تماماً، وكثيراً ما يتبادلا الأدوار فيما بينهما، فتنقلب الكراهية فجاءة إلى حُب، وينعكس الحُب بدون إنذار إلى كراهية، وذلك وفقا للظروف والمواقف والأحداث والأمزجة وتقلباتها، هذه هي سّنة الحياة التي لن تجد لها تبديلا ، فلا يمكن تصور حياة كلها حُب و محبة، أو حياة يسودها النفور والكُره وإلا لفقد الكون إتزانه، إلا أن المتصور عقلاً ومنطقاً وخُلقاً وأخلاقاً، هو أنه من الممكن جداً، بل من الواجب أن تكون للكراهية أسباب وجيهة، وأن تحظى الخصومة بشئ من العفة والنزاهة والشرف، فلا يجوز شرعاً ولا عرفاً أن تبغض أو تكره إنسان لمجرد ان إسمه لم يعجبك أو ملامحه لا تروق لك، أو أن أصله من غير أصولك،أو يخالفك المذهب أو الطائفة أوالدين أو الجنسية أو المكانة الإجتماعية أو حتى الفكر والرأي، وإن حدث وكرهت إنسان ما لسبب وجيهٍ ما، فعليك أن تتحلى بالأخلاق الحميدة حتى وأنت تناصبه العداء،لا الكُره والبغض فحسب، وأن تكون صادقاً شريفاً في خصومتك معه وإختلافك مع آرائه وتوجهاته ومعتقداته ومسلكه وسلوكياته .
وهذا ما نفتقده بحياتنا اليومية بهذا الزمن العجيب، وعلى كافة الأصعدة الإجتماعية والسياسية على حد سواء، وهذه الآفة تعتبر من عموم البلوى، أي أنها لا جنس ولا جنسية ولا دين ولا قومية ولا عمر معين لها، ولا مستوى إجتماعي أو طبقي ينفرد بها، وإن كانت حدتها تخف أحيانا، وتشتد أحيانا أخرى، وذلك تبعا لوضعية المصابين بها من الناحية الحضارية والفكرية والأخلاقية والتربوية, ومن المؤسف له شديد الأسف .
ورغم إننا أبناء أمة شُهد ويشهد لها بالحضارة وبمكارم الأخلاق التي أتممها رسولنا الكريم محمد، عليه أفضل الصلاة والسلام، إلا أن لهذه الآفة نصيب الأسد وأشباله فيما نعانيه من مشاكل وأزمات وتخلف وتبعية، لم تشهد لها الأمم الأخرى مثيل، فعلى الصعيد الإجتماعي مثلاً، تظهر جلياً وبوضوح أعراض هذه الآفة المستفحلة،ابتداء من النواة الأولى للمجتمع وهي الآسرة المتكونة بدء من الزوج والزوجة، فبمجرد أن يحدث شرخ ما، لسبب ما، وجيهاً كان أو غير ذلك بهذه العلاقة الإنسانية الراقية والمعقودة بعقد ربانيٍ مقدس، وما أن يسود أحد طرفيها أو كليهما الكُره، حتى تبرز للسطح خلافاتهما ومشاحنتهما المملؤة حقداً وبغضاً، المشبعة بالدسائس والإفتراء والتبلي، وكأنهما لم يعيشا تحت سقف واحد معاً، ولم يمرحا ويأكلا ويشربا ويناما معاً مطلقاً، وكأن العداوة قد وُلدت معهما ونشأت وترعرعت بينهما، ولم تكن بيوم بينهما مودة أبداً، ولمن له الرغبة بالتأكد من هذه النقطة أو لمعرفة المزيد عنها، ما عليه إلا أن يُكلف نفسه عناء الذهاب لمحاكم الأحوال الشخصية وحضور جلساتها التي صارت شبه يومية، وسيسمع ويشاهد بأم عينه العجب العجاب.. كما يلاحظ إجتماعياً أيضاً وجود آفة التبلي هذه بين بعض الأهل والأقارب والأحبة والجيران والأصدقاء والزملاء، وحتى بين أبناء الوطن الواحد، حينما يحل الكُره بينهما محل الود والوئام، ويسكن النفور والخصام النفوس مكان التفاهم والانسجام، بسبب الغيرة أو الحسد أو سوء الفهم أو الوقيعة أو الوشاية من طرفٍ ثالثٍ له مأرب في ذلك، وهي أمور بشرية دنيوية متوقعة الحدوث، ومن خلالها وإثناء وقوعها وحدوثها، تُعرف أخلاق الناس ومعادنهم، فمن كان منهم على خُلق عظيم، كانت أقواله وأعماله وأفعاله في خصومته وكُرهه وبأسوأ الظروف وأحلكها عظيمة كذلك، ومن كانت أخلاقه وضيعة ونفسه دنيئة، كانت خصومته وعداوته أكثر دناوة ووضاعة منه، ولا يمكن توقع الخير منه أبداً، بل على العكس تماما، لا يأتيك منه إلا كل ما لا يمكن توقعه...
هذا على الصعيد الاجتماعي،أما عن الصعيد السياسي، فالمعضلة والمصيبة أعظم وأخطر وأجلّ، لأنها كثيراً ما تخرج عن نطاقها المحدود، ومن تم تخرج عن السيطرة أحياناً، وتكون نتائجها وخيمة جداً، فإذا كانت أضرار الإبتلاء والتبلي بالعلاقات الاجتماعية غالباً محدودة، ولا تصيب بالعادة إلا من حدثت بينهما، وربما القليل من المحيطين بهما،إلا أن الأمر يختلف بالجانب السياسي، حيث يكون الضرر أشمل وأعم وأعنف، والشواهد على ذلك لمن شاهد أو لم يشاهد أكثر مما تُعد وتُحصى، ولعّل أبرز تلك الشواهد وأشدها، ما حدث ويحدث على الساحة العراقية، من كوارث ومصائب حلت بالشعب العراقي، ما كانت لتحدث أبداً لولا إستخدام صقور الخليج، ومن كانوا يسمون أنفسهم بالمعارضة العراقية، أساليب الإبتلاء والتبلي وإحاكة المؤامرات والدسائس الخبيثة، من أجل الإنتقام والتشفي والوصول لأغراض دنيئة بسبلٍ تعفُ عنها الدناوة نفسها، ولكم بعض تلك السُبل الرخيصة المهينة، على سبيل المثال لا الحصر..
الإفتراء على النظام العراقي الشرعي بأنه يخفي أسرى كويتيين لمدة ثلاثة عشرة سنة، وهي فرية إعلامية ثُبت بطلانها بعد إحتلال العراق ودخول القوات الأمريكية لبغداد الرشيد، حيث اختفت تماما تلك الضجة الإعلامية، وكأن الأسرى قد تبخروا مثلما تبخرت جنسيات البدون، وفريتهم القذرة على الجيش العراقي الباسل بأنه كان يقوم بإقتحام المستشفيات وإنتزاع المواليد من الحضانات ورميهم بالشوارع، ويقوم بإغتصاب النساء الكويتيات أمام دويهن، لا إله إلا الله ، استحلفكم بكل مقدسات الأرض،هل يمكن أن يحدث هذا ؟!! ومن الجيش العربي المسلم العراقي !!..
كذلك إفترائهم وتبليهم على الرئيس صدام حسين ونظامه بأنهم يسعون لإمتلاك أسلحة محظورة دولياً، وكذلك علاقة النظام العراقي بتنظيم القاعدة، وإنتشار المقابر الجماعية المزعومة، وأخيراً وليس آخراً، كذبتهم المضحكة المخزية تلك التي حاولوا من خلالها تشويه صورة الرئيس الشهيد صدام حسين بأواخر لحظات عمره بأن وصفوه بتصريحاتهم المقززة الشامتة زوراً وبهتاناً بأنه كان خائفاً مرتعشاً إثناء تنفيذ حكم الإعدام الباطل فيه، ليظهر بعد ذلك للعالم بأسره قوياً متماسكاً رابط الجأش ثابت الإيمان والشكيمة موضحاً للجميع وبسخرية مدى تفاهة وحقارة وكُره وحقد وكذب وإفتراء أعدائه الذين استطاع أن يقهرهم في حياته ومماته على حد سواء..
وبالنهاية كانت النتيجة السوداء وصول المعارضة للسلطة بدولة مدمرة دماراً شاملاً ، نصفُ شعبها مُهجّر والنصف الباقي موزعاً بين مقاتل أو قتيل أو سجيناً أو أسير أو منطوياً خائفاً أو تابعاً عميل.. ثم نأتي لمعارضة دوي القربى، والتي كانت بالأمس القريب بين الأخ وأخيه، واليوم بين العم وإبن أخيه، معارضة سُخرت بشكل أو بآخر من اجل ان تبقى( سوريا) مكبلة بين سهمٍ في الصدر ورمحٍ بالظهر، منشغلة بحربٍ كلامية إعلامية مؤامراتية دسائسية ضروس تدور رحاها داخل البلاد وخارجها بين الطرفين منذ سنوات عديدة، كلفت كليهما الجهد الكبير والمال الوفير وأهدرت وقتيهما الثمين ليس من أجل الجولان ومزارع شبعة أو من أجل القدس الشريف طبعاً، ولكن من أجل أن ينشغل بهما وبقتاليهما الشعب السوري عن معركة التنمية والتطوير بالداخل، وعن معركة الكرامة والتحرير بالخارج...
ثم أنظروا إلى فلسطين،هذا البلد الذي يئن شعبه تحت وطأة وإذلال وقسوة وعنف الإحتلال الصهيوني منذ عقودٍ من الزمن، ومع ذلك وجد به من يجيدون فيما بينهم فن لعبة التراشق بالإتهامات والطلقات النارية أحيانا، والتنابز عبر التصريحات والفضائيات بالشتائم والألقاب، من الفلسطينيين وقت لذلك، بالوقت الذي تدك فيه دبابات وطائرات العدو الصهيوني منازل الأبرياء من الشعب الفلسطيني ويتسابق جنرالاته لإرتكاب أفظع وأشنع المجازر بحق الأطفال والنساء والشيوخ الذين هم بالأصل لا علاقة لهم لا من قريب ولا من بعيد بألاعيب السياسة القذرة..!!!
وهاهو السودان البلد العربي العملاق أصبح قزماً، بسبب ما يواجهه من نكبات وإنتكاسات سياسية وإجتماعية وإقتصادية مستمرة، مرجعها الأساسي صراع أبنائه على السلطة وطمع كل فريقاً منهم بثرواته التي أوشكت بأن تكون مطمعاً للجميع، وستكون كذلك إذا ما ظل الحال على ماهو عليه، وحالهم هذا لم يعد خافياً عن أحد، فما من محطة فضائية إخبارية سياسية إلا وأخذت نصيبها، وعبّت ساعات فراغها، من مناطحات وشطحات وتهكمات وإفتراءات فرسان الكلام الإخوة السودانيين على بعضهم البعض، وتنظيرهم ومناظراتهم السيوفكرية، تارة حول الجنوب، وتارة أخرى مغازلة بدارفور، وغالباً حول مسألة الحكم وشرعيته وشرعنته، والشعب السوداني يتضور جوعاً ويفترش أرضاً تعُد من أخصب أراضي الدنيا قاطبة، ولقد أخطا كل الذين هللوا وكبّروا للفريق أول( سوار الذهب) وجعلوا منه إسطورة ومثلاً يفترض أن يحتدى به، فهذا الرجل وإن كان قد أوفى بعهده بعد أن أطاح بالنظام الأسبق للسودان وأنتشل البلد من الضياع، إلا أنه لم يكن وطنياً بما فيه الكفاية، ومسألة تخلّيه عن السلطة والحكم طواعية، ليس بالضرورة لكي يقال عنه ما قد قيل فيه لاحقاً، بل من الممكن جداً لأنه أدرك أو كان يدرك قبل ذلك بأنه ليس أهلاً لذاك المنصب الحساس بظرفٍ زمني غاية في الحساسية، مطبقاً بذلك المثل القائل(( رحم الله إمرئ عرف قدر نفسه فوقف دونه)) ولوكان سوار الذهب رجل القدر، وقدر البلد بالفعل، لظل وبقبضة فولاذية ممسكاً بزمام الأمور، وبناصيات المُغيرين حتى تصل البلاد إلى بّر الأمان، إجتماعياً وإقتصادياً وأمنياً وسياسياً، ثم بعد ذلك يعتزل السياسة أن أحب أو أراد، لا أن ينتشلها من بركة ضحلةً ليسلمها لمستنقع أكثر ضُحولة وعُفونة، فذهبت بذلك تضحياته أدراج الرياح، وكأنه لم يفعل لوطنه شيء...
وحتى لا يقال بأننا نضرب الأمثال وننسى أنفسنا، فهاهي حفنة قليلة جداً من الليبيين الذين مُنحوا ذات يوم من الدولة الليبية والشعب الليبي ثقة يبدو أنهم لم يكونوا أهلا لها مطلقاً، فمنهم من كُلفوا بمهام خارجية لمصلحة الوطن، أو أرسلوا لعقد صفقات تجارية وإقتصادية لخدمة المجتمع، فاستولوا على ما كان بعُهدتهم من أموال الشعب وفروا بها للخارج وأودعوها بحساباتهم في بنوك أوروبا وأمريكا المدعومة والمُدارة بأموال وعقول إسرائيلية بحثة، ومنهم من نهب وسرق ما أؤتمن عليه من أموال المجتمع بحكم صفته الإعتبارية ووظيفته التي صُعد لها أو كُلف بها، وأستطاع على نحو ما تهريبها خارج الحدود، ومنهم بعض طلاب العلم وبعد أن وصلوا لمراحل متقدمة بالدراسة المجانية داخل الوطن، تمت إفادتهم للخارج وعلى حساب خزينة المجتمع من أجل أن ينهلوا من العلم والمعرفة لكي يستفيدوا ويفيدوا بهما وطنهم ومجتمعهم ويساهموا بفاعلية في تقدمه وازدهاره، وربما منهم من سافر للخارج لغرض العلاج على حساب المجتمع بعد أن نال كافة حقوقه من الإهتمام والرعاية والعلاج المجاني بمستشفيات الوطن ومصحاته وأدويته المجانية أيضاً، وبعضهم من كان متهرب وهارب من أداء الخدمة الوطنية بميدان الشرف، فتم جّرهم بشكل أو بآخر لما هم فيه وعليه اليوم من ضلال وضياع وتشرد وعدوانية، وسُخّروا من قبل أعدائهم وأعداء وطنهم وأمتهم العربية والإسلامية، وإستخدموا كأبواق وخناجر مسمومة لطعن بلادهم وشعبهم وأمتهم في الظهر..
فهلاّ نظر هولاء حولهم، وتمعنوا ملياً بشعوب الدول التي يقذفون من على أراضيها حممهم الكلامية المُزيفة المملؤة حقد وكُرهاً وغيرة وأنانية والتي لا تهدف إلا لتشويه صورة الوطن وهلاك الدولة والشعب، المكتوبة عبر الصُحف أو مواقع الإنترنت الرخيصة أو تلك المُلقاة بأفواههم من خلال برامج أُعدت خصيصاً لمثل هكذا أغراض، ويقدمون لها ولغيرها المعلومات والأسرار عن وطنهم وأهلهم وإخوانهم وبدون مقابل حتى، مما يعني أنهم جواسيس دون أجر، ودون أدنى إحترام أو تقدير أو عرفان بالجميل من قبل من استخدمهم وأستغلهم أسوء إستغلال؟!!! ..
لو أنهم فقط فعلوا هذا الأمر، وبشيء من العقلانية والتدبر، لوجدوا إنه من المستحيل أن يفكر أولئك البشر حتى مجرد التفكير في أن يغدروا بشعوبهم وأوطانهم مهما كانت الأسباب والدوافع، وأن يُقدموا على فعل ما فعلوه ويفعلوه، ولكانوا أدركوا أيضاً بأنهم يعيشون بتلك البلدان في وضع لا يحسدون عليه، من الغفلة والتغفيل والإنحطاط والدونية، والسخرية والإستهزاء بهم وبأفعالهم وأقوالهم، من قبل مستضيفيهم ومُستغليهم.. وربما بعد هذا وذاك يتعلمون منهم كيف أن المعارضة لا تكون بالضرورة من أجل إقصاء الطرف الآخر والإحلال محله حتى ولو كان هو الأفضل والأجدى والأجدر والأقدر، ولو تم ذلك بالتآمر وبالإستعانة بالقوات الأجنبية والمرتزقة، أي بمعنى إن فكرة المعارضة بالأساس هي ليست تعبيراً عن المعاداة والكُره والحسد والحقد، بقدر ما هي محاولة لتفعيل عمل ما أو تصحيح برنامج معين أو معالجة رؤية أو تعديل وضع خاطيء أو تقويم فكرة للوصول بالنهاية لما هو أفضل للكل، ولما فيه الخير للجميع، ومن تم يتعلمون منهم أيضاً كيف يكون النقد الموضوعي البنّاء، وكيف تكون المعارضة الحقيقية النزيهة الشريفة واللذان لا هدف ولا غاية لهما ومنهما إلا مصلحة الوطن والشعب، والبعيدان كل البعد عن الحسد والحقد والغيرة والأنانية والسب والشتم واللّعن والقذف والتشهير والإفتراء والإبتلاء والكُره والتبلي . ** محامى ليبي