معضلة تركيا د. أحمد مصطفى نجحت الضغوط الدبلوماسية الأميركية حتى الآن في تأجيل العمل العسكري التركي في شمال العراق ضد مقاتلي حزب العمال الكردي الذين تحملهم تركيا مسؤولية قتل 30 الف تركي منذ اندلاع الصراع قبل نحو ربع قرن. لكن مسألة إلغاء تلك العملية يعتمد على عوامل أكثر تعقيدا من الضغوط الاميركية على الحكومة والتركية وتصاعد المشاعر الوطنية، أي ضغط الشارع التركي على الحكومة التي تجد نفسها أقرب الى من بين فكي كماشة. وان ظل ذلك لب معضلة تركيا: عين على واشنطن وعين على اربيل، إذن مع الشارع الاسطنبولي وإذن مع ما يردده المحيط الإقليمي. منذ تجدد القتال بهجمات حزب العمال على القوات التركية في جنوب الشرق، شمال الحدود مع العراق ، ومقتل عدد من الجنود الاتراك واسر اخرين (أسفرت الجهود الدبلوماسية عن إعادتهم) الشهر الماضي، وتركيا تحشد قواتها على الحدود استعدادا لعملية عسكرية داخل شمال العراق عنوانها الرئيسي هو القضاء على الملاذ الآمن لنحو ثلاثة آلاف من مقاتلي الأكراد الذين يشنون هجمات على القوات التركية عبر الحدود وجبال قنديل الوعرة. وبسرعة اجاز البرلمان التركي للحكومة حق ارسال الجيش الى شمال العراق للقضاء على التمرد الكردي. الا ان الاميركيين لا يريدون بؤرة مشتعلة اخرى في بلد تمزقه الحرب منذ غزوه واحتلاله قبل اربع سنوات. سبق لتركيا ان ارسلت قواتها الى شمال العراق من قبل دون ان يقضي ذلك على حزب العمال، الساعي لحكم ذاتي في المنطقة الكردية من جنوب شرق تركيا بمحاذاة مناطق العراق في شمال العراق وشمال شرق سوريا وشمال غرب ايران. وكان قلق تركيا المبرر من محاولات الاكراد فرض كيان شبه مستقل في تلك المنطقة، خاصة وانهم منذ بداية التسعينيات يتمتعون بشكل من اشكال الحكم الذاتي في العراق بدعم اميركي/بريطاني/اسرائيلي. واذا كانت الولاياتالمتحدة ، حتى الآن، ليست مع استقلال الاكراد تماما الا انها لا تريد ايضا ان تنتهي المشكلة بحسم لصالح أي من القوتين الاقليمتين: تركيا أو إيران. وشهد الاكراد استقطابا قويا على مدى العقدين الاخيرين، فصيل تدعمه ايران وفصيل تدعمه اسرائيل، وشرائح من الفصيلين تتحالف مع بغداد او انقرة على مراحل تكتيكية. لكن منذ احتلال العراق يسعى الاكراد للاستقلال، وتلك مشكلة تركيا الحقيقية انها لا تثق في قدرة العراق عل عمل شئ وتتحسب للنوايا الاميركية رغم ان واشنطن تحتاج لدعم انقرة لوجيستيا لعملياتها في العراق وتحذر النفوذ الاسرائيلي في شمال العراق. مع كل هذه المخاوف، لم تتمكن تركيا من الحصول على دعم ايراني واضح لتدخلها العسكري في شمال العراق، اما سوريا فموقفها غائم الى حد ما ولا يبدو مؤثرا كثيرا في المحيط العربي والاغلب انه يتقارب مع الموقف الايراني من المشكلة الكردية. أضف الى كل تلك التعقيدات الاقليمية التي تعظم من معضلة تركيا التوتر الداخلي بين حكومة رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان والرئيس عبد الله جول قادة حزب العدالة والتنمية الاسلامي التوجه وقيادات الجيش التركي العلمانية التوجه. واذا كان قادة الجيش يريدون ان يستعيدوا بعضا من السطوة والنفوذ الذي سحبهم الاسلاميون فان الازمة الحالية مع المتمردين الاكراد فرصة مثالية. الا ان الجيش مكبل ايضا بهدف علماني اعلى، وهو الرغبة في الانضمام الى الاتحاد الاوروبي ويدرك الجنرالات ان اردوغان يمكنه حلحلة الكثير مع الاوروبيين ببراغماتيته الشديدة. ولا تحتاج أنقرة لعقبة جديدة امام التفاوض مع الاوروبيين من قبيل قمع الاقلية الكردية فيها، او التدخل العسكري في شمال العراق وان كان العراق انتهكت سيادته اوروبيا واميركيا من قبل ، فهناك مباهاة اخلاقية زائفة بأن الغرض من ذلك كان "تحرير الشعب العراقي". قد يضغط الاميركيون كي يتوقف اكراد العراق عن دعم اكراد تركيا، وربما يقوم الجيش التركي بعمليات محدودة في شمال العراق لا تنال تماما من الكيان الكردي شبه المستقل الوليد مجتزءا مما كان دولة العراق، ويهدأ الشارع التركي ويقتنع جنرالات انقرة بحنكة اردوجان، الا ان كل ذلك لن يحل جذر المشكلة: الخوف من كيان كردي يستقل مقتطعا جزءا من كل من تركيا وسوريا وايران. كل ذلك مرهون بتطورات عسكرية في المنطقة تتجاوز تركيا، وتحديدا ما بين ايرانوالولاياتالمتحدة وسوريا واسرائيل. فعمل عسكري اميركي ضد ايران سيخلق جيبا كرديا في شمال غرب الجمهورية الاسلامية يتلاقى مع نظيره العراقي، والعمل على تغيير النظام في سوريا اميركيا (بحجة لبنان او اي حجة اخرى) او عدوان عسكري اسرائيلي يعطي الاكراد في سوريا فرصة الالتصاق بالعراق من شمال شرق تركيا. واذا كانت مثل تلك التطورات مفيدة لاسرائيل، الا ان واشنطن مترددة في الدفع باتجاهها حتى الان وهذا ما يجعل تركيا متلهفة لاجهاض كل ذلك قبل ان يصبح على طريق الامر الواقع الذي لا تستطيع عمل شيء لتغييره. تلك هي معضلة تركيا الحقيقية التي لا تحلها زيارة وزيرة الخارجية رايس لانقرة ولا لقاء القمة بين اردوجان وبوش في واشنطن. فبقية اللاعبين مترددين ويريدون الاحتفاظ بأوراقهم فيما تتعجل تركيا اللعب ولو وحدها. ولم تعد تنفع الاكراد تحالفاتهم القديمة مع القوى الاقليمية، فكل شئ الان قابل للتبدل السريع حسب المصالح والحسابات الجديدة. عن صحيفة الوطن العمانية 7/11/2007