قبل فترة زار الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش الكويت، وفي حديثه للصحافين قال جملتين عن العراق تستحقان التوقف عندهما الآن.
الأولى قوله إنه 'غير نادم' على أي قرار اتخذه خلال فترة رئاسته، وتأكيده على أنه 'فخور بما قام به في العراق'. والثانية قوله 'لقد بدأت بذور الحرية تنمو في العراق والتضحيات أثمرت'.
في مرحلة ما قبل الوثائق التي نشرتها ويكيليكس كانت تلك الكلمات تتماشى تماما مع السياق العام الذي تتحدث به الإدارة الأمريكية، حيث كنا جميعا، نحن الصحافيين والمتابعين والمتحدثين في وسائل الإعلام، نعلم زيف تلك الكلمات ومثيلاتها التي تتردد على لسان المسؤولين الأمريكيين وأشباههم من العراقيين.
حديثهم عن العراق الجديد والتحول الديمقراطي في البلاد، والحرية وحقوق الإنسان اللتين افتقدهما العراق إبان عهد النظام السابق... نعلم زيف تلك الكلمات والمعاني التي تحملها بحكم الواقع والمعرفة بتفاصيل ما يجري في الشارع العراقي.
لكننا ملزمون مثل غيرنا بالتعامل مع هذه التصريحات، بحكم أنها صادرة عن مسؤوليين كبار يمثلون الإدارة الأمريكية التي هي رمز الديمقراطية الغربية التي لا يمكن التشكيك في مصداقيتها.
مع علم الجميع بأن الإدارة الأمريكية قد غيرت من مبررات حربها على العراق بعدما تبين لها قبل غيرها زيف الحديث عن امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل.
وتحولت مبرراتها إلى زرع الديمقراطية في هذا البلد الذي عانى سنوات طويلة من الدكتاتورية والظلم وفي المنطقة من خلال النموذج العراقي.
في المقابل عندما كان يصف المعارضون للوجود الأمريكي في العراق ولعمليته السياسية الأوضاع في البلاد، ومأساوية ما يعيشه المواطن العراقي على يد القوات الأمريكية والأجهزة الأمنية العراقية.
كالذي ينقل على لسان الشيخ حارث الضاري الأمين العام لهيئة علماء المسلمين في العراق، وحديثه عن مليون ونصف المليون عراقي قتلوا منذ احتلال العراق في 2003 .
عندما كانت تذكر مثل هذه الأرقام لا تتعامل معظم وسائل الإعلام المعروفة بجدية معها، ويعدها الكثيرون من قبيل المبالغات التي هدفها الدعاية السلبية للوجود الأمريكي بشكل عام، وللعملية السياسية التي عرف الضاري بموقفه الرافض لها بشكل خاص.
هكذا هي حال الصحافة والصحافيين ووسائل الاعلام في فترة ما قبل وثائق ويكيليكس، فكيف سيكون أداؤها في المرحلة اللاحقة التي تبين فيها للجميع زيف ما كانت تتحدث به الإدارة الأمريكية، بل إن مقاتليها كانوا يتعاملون باستخفاف شديد مع الدم العراقي، رجاله ونساءه وأطفاله.
وأن الديمقراطية الأمريكية كانت مذلة للشعب العراق، وعلى حساب أرواح أبنائه. هل ستتجرأ وسائل الإعلام للتعامل بمهنية حقيقية مع ما يجري في العراق، وتتناول حديث المسؤولين الأمريكيين والعراقيين بموضوعية، وتكون الحقائق على الأرض هي الفيصل في التعامل مع هذه التصريحات أو تلك.
هل ستتعامل بمنطق الوعي لحقيقة أن الحكومتين الأمريكية والعراقية كانتا تكذبان على شعبيهما وعلى وسائل الإعلام طيلة السنوات العجاف الماضية.
في الوقت الذي كان فيه الشعب العراقي يعاني مرتين، الأولى على يد القوات الأمريكية والأجهزة الأمنية العراقية عند الاعتقال أو على حواجز التفتيش، داخل البيوت وفي الشوارع.
والمرة الثانية عندما كان يسمع تشدق المسؤولين الأمريكيين والعراقيين بالحرية والديمقراطية التي يعيشها العراقيون في العهد الجديد.
ولعل من الانصاف أن نقول ونعترف بأن الصحافي العراقي المشهور منتظر الزيدي سبق زمانه وفاق أقرانه، عندما فاض به الكيل ولم يحتمل حديث الرئيس الأمريكي جورج بوش في زيارته الأخيرة إلى بغداد، ورماه بفردتي حذائه متجاوزا كل حدود اللياقة التي يفترض أن يعامل بها أي مسؤول كبير، فضلا عن رئيس أكبر دولة في العالم.
لعل الزيدي بتجاوزه ذاك كان الصحافي الوحيد الذي احترم كرامة الشعب العراقي، أو على الأقل هو الوحيد الذي تجرأ احتراما لمهنته وللحقيقة وربما للمهنية.
فهل ستكون مرحلة ما بعد وثائق ويكيليكس تختلف عما قبلها؟.
وهل ستكون لدى الصحافيين الجرأة الكافية للانحياز للحقيقة والتعامل مع الخبر العراقي من منظور واقعي، بغض النظر عمن يقوله.
يكفينا في هذا من الصحافيين المهنية التي تستحضر الوثائق التي نشرتها ويكيليكس للاطمئنان على الصحافة في المرحلة المقبلة.
*مقدم برنامج (المشهد العراقي) في قناة الجزيرة جريدة القدس العربي 24/11/2010