د. اشرف السيوطى لعل التساؤل القديم الذي قالته الملائكة حين قال لها الحق –تبارك وتعالى- كما جاء في القرآن: (إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) [البقرة 30]
ومع أن الحق –سبحانه- رحمة بعبده الإنسان، وعوناً له على القيام بمهمة الاستخلاف في الأرض ميزه بالعلم يدرك به الأسرار.
ومنحه العقل يميزه به الخبيث من الطيب، ثم زاد فضله عليه فأرسل إليه رسله وأنزل عليهم الرسالات والكتب.
ومع هذا كله فما يزال التساؤل القديم الذي قالته الملائكة قائماً إلى اليوم، لنراه وكأنه نبوءة تتحقق منذ قتل أحد ابني آدم أخاه إلى عصرنا الحاضر الذي كاد فيه أبناء هذا الجيل أن يفقد عقله وتستبد به نزواته وشهواته.. مرتضياً لنفسه الشذوذ على سواء الفطرة.
هذا الشذوذ قادم من أصحاب الاستبداد الديني.. أصحاب الظاهرية البحتة في الدين.. الذين نفخوا فكرهم الشاذ في نفوس أبناء الجيل.. ونصبوا أنفسهم متحدثين باسم الدين وحدهم..
حتى وصل بهم الاستعلاء بالباطل إلى حد التأله الذي تحدث به فرعون في قوله: (أنا ربكم الأعلى) إلى غير ذلك من المقولات المتغطرسة التي تكشف عن رفض أي متشدد ظاهري للرأي الآخر.. مما تكون نهايته هي الفساد الكبير في الأرض كما دفع القرآن بذلك قوله: (فأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم ربك سوط عذاب، إن ربك لبالمرصاد) [الفجر 12-14].
فموقف الدين من الاستبداد الديني هو موقف الرفض الحاسم، واعتبار المفسدين وأعداء الحرية مفسدين في الأرض يستحقون من الله العذاب الأكبر لشذوذهم الديني.
فالدين يعتبر الحرية ليست مجرد حقوق بل اعتبرها من الضرورات.. هذا المعنى فطن إليه الخليفة الراشد (عمر بن الخطاب) في قولته الشهيرة (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً).
ويستخدم هؤلاء المستبدون حق (الفيتو) للحيلولة دون الاستجابة لرغبة غالبية هذا الجيل في التعبير عن نفسه في بعض القضايا التي يكون الحق والعدل فيها أوضح من أن يحتاج إلى من يتحدث عنه.
وليت الأمر توقف بهم عند هذا الحد، وإنما بثوا أفكارهم الدينية الشاذة في عقول هذا الجيل.. وزينوا لهم التطرف والشذوذ الديني على أنه هو الدين الحق.. واختزلوا الدين في الظاهرية البحتة.. في الملبس والشكل.. فوقعوا في الإفراط من جهة والتفريط من جهة أخرى.
هذا الشذوذ الديني ما أنزله الله في كتابه ولا ذكره النبي (ص) في سنته المطهرة.. بل إن الله نهى الناس عن هذه الظاهرة فقال تعالى: (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل) [ ].
وهو ما حذر منه النبي (صلي الله عليه وسلم ) بقوله (إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) [رواه أحمد والنسائي] وقوله: (هلك المتنطعون – المجاوزون للحد في أقوالهم وأفعالهم – قالها ثلاث) [مسلم].
ولك أن تعيد قراءة التاريخ من يوم خروج الخوارج إلى يومنا هذا.. وتقف عند مصائب الأمة.. وتتأمل دور الأفكار الشاذة التي تقف على قشور الأمور من أمر الدين والدنيا.
بين أيدينا حادثة وقعت بين يدي النبي (صلي الله عليه وسلم ).. دافعها شذوذ فكري، فوقف لها النبي (صلي الله عليه وسلم ) معالجاً علاجاً قيدها قبل أن تسرح وتنتشر بل دفنها قبل أن ترى الحياة..
تقف عندها ونهديها إلى هؤلاء المستبدين بالدين، لنحقق من جهة قوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) [الأحزاب 21] ولنتعلم درساً نبوياً في التعامل مع الفكر الشاذ أياً كان صاحبه.
فعن أنس (رضى الله عنه) قال: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي (ص) يسألون عن عبادة النبي (ص) فلما أخبروا كأنهم تقالوها وقالوا: أين نحن من رسول الله (ص) قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فأصلى الليل أبداً، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر.
وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله (ص) إليهم فقال: انتم الذي قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلى وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) [متفق عليه].
بجلاء يتضح لنا كيف أن الفكر الشاذ يبدأ سهلاً وبسيطاً.. مجرد فكرة طرأت ببالهم فأرادوا تأكيدها.. فلما لم يقتنعوا بما سمعوا من أزواجه (صلي الله عليه وسلم ).. برروا لأنفسهم شذوذهم الديني بقولهم: وأين نحن من رسول الله (صلي الله عليه وسلم )؟
ومن مصائب الشذوذ الديني – كما عند بعض الدعاة- أنه يدعى لنفسه الكمال والصواب وما دونه هو الباطل.. فهنا نتأمل قولهم (تقالوها).. ثم برروا ذلك بقولهم: قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
والسؤال: كيف عالج النبي (صلي الله عليه وسلم ) هذا الفكر الشاذ؟
ها هو المصطفى (صل الله عليه وسلم ) يحصر نطاق هذا الشذوذ.. فيذهب إليهم، ويحصرهم بقوله: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟).. فحدد (ص) المصدر وحصره فيهم، ليسهل بتره قبل أن ينتشر الداء. فكم من فكرة شاذة لم تلاق موقفاً حازماً.. فانتشرت كما تنتشر النار في الهشيم.
انظر إلى تصرف النبي (صلي الله عليه وسلم ) في قول (أنس): (فجاء إليهم).. فالمسألة تستحق أن يتحرك لها وبسرعة.. لأن الأمر أمر عقيدة.. وبمثل هذه الخطوات الحاسمة تعالج مثل هذه الأمراض الخبيثة.
وأعلن لهم النبي (صلي الله عليه وسلم ) وبواقعية فساد عقيدتهم بقوله: (لكني أصوم وأفطر، وأصلى وأرقد، وأتزوج النساء).. فهل بعد كماله (ص) كمال؟!
ولم يكتف (صلي الله عليه وسلم ) بكل هذا وإنما أعلن حكماً قاسياً بقوله: (فمن رغب عن سنتي فليس مني) فالأمر ليس مجرد زيادة ركعات أو مواصلة صيام.. إنه خروج عن الهدى الصحيح.. فكان حكمه (صلي الله عليه وسلم ) قاسياً؟ حتى لا يختلف الناس حولها بين مؤيد ومعارض.. ومستهين ومبالغ.
وكم من أفكار شاذة تنتشر بين أبناء هذا الجيل (وقد يكون مصدرها داع متشدد مستبد، ولم تجد من يبترها قبل أن تنتشر فيعم البلاء المجتمع كله.
فهذا الجيل المنغلق ظاهرياً بالملبس والشكل لابد أن يحس بأن منظومته الفكرية في موضع تهديد.. حيث غزته الثقافة المتخلفة الرجعية التي لا يرضيها إلا اللحية.. والسواك.. وتقصير الجلباب.. شعاراً للدين.. فصارت هشاشة عقولهم سبباً من أسباب غزوهم.
هل هذا هو التدين الذي يريدونه لهذا الجيل؟ تدين ظاهري شكلي أبعد ما يكون عن التدين الذي يريده الله سبحانه من الالتزام الظاهري والباطني الذي يحمي صاحبه من الفكر الشاذ.
إنهم يستبدون بعقول أبناء هذا الجيل.. ينشرون فكرهم الشاذ بينهم ظانين أن ذلك يحميهم من الفتن التي صرخوا بالتحذير منها.
إن هؤلاء المستبدين بالدين في حاجة إلى تقييم حقيقي لتدينهم.. قبل أن يأتي يوم يتحرر فيه أبناء هذا الجيل من استبدادهم وشذوذهم الديني.. لتنطلق طاقاته الإبداعية في كل الاتجاهات بشخصية قوية وبإرادة معنوية بناءة تدفع هؤلاء المستبدين المفسدين في الأرض عن طريق المصلحين..
وتمضى لتبدع وتنشئ وتعمر وتحقق المهمة التي من أجلها استخلف الإنسان في الأرض.. وتلك من الأعظم ما امتن الله به على خلقه حين قال متحدثاً عن أهل مكة: (فليعبدوا رب هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) [قريش 3-4].. إن هذا اليوم لآت فانتظروا إني معكم من المنتظرين.