لقد قامت الحضارة الإنسانية دون شك ،بفضل الجهود البدنية والفكرية للعاملين،لكن رغم أهمية الدور الذي يلعبونه فقد تعرّض العمال في أنحاء المعمورة، لشتّى أشكال القهر و صنوف التعذيب والعمل في الظروف القاسية ، وبنظرة سريعة إلى مجريات التاريخ نستجلي ما تعرّض له العمال عبر مراحل الحضارات، من استعباد واستغلال وقساوة ،دون تأمين مستلزمات الحياة ، ولما تفطن البعض في عصر النهضة الصناعية في أوروبا لذلك القهر وبشاعة صوره،رفعوا لواء الدفاع عن الطبقة الشغيلة، والمطالبة بتحسين ظروف العمل، وتأمين متطلبات العيش الكريم ،فكان التأسيس لإنشاء الجمعيات والهيئات والنقابات العمالية،تأسست منظمة "فرسان العمل" ، بأمريكا عام 1969، وكان من بين مطالبها خفض ساعات العمل الى ثمان، وبعد أن نجحت مجموعة من قيادات العمال في تكوين هيئة للعمال1886، تبنت الدعوة لاعتبار الأول من ماي من ذلك العام يوماً للإضراب العام من أجل تخفيض ساعات العمل إلى ثمانٍ في جميع المهن والوظائف .
استمر الحال وتوسعت رقعة الحركة العمالية ،وكرد فعل للمظاهرات المطالبة بيوم عمل من 8 ساعات التي اندلعت في استراليا ،والولايات المتحدة، وأوربا ،انعقد مؤتمر دولي للعمال عام 1889،وقرر ،أن يجعل من أول ماي يوما عالميا يتحرك فيه العمال للمطالبة بشروط عمل أحسط محيط وأكثر عدالة بضمانات اجتماعية أفضل .ومنذ ذلك اليوم اتّسع الاهتمام باليوم الأول من ماي الذي صار ذكرى تستعاد كل عام، وما لبثت أن اعتبرت يوماً عالمياً للعمال، يُحتفل به في كل أنحاء العالم بهدف لفت أنظارالأنظمة الحاكمة وأرباب العمل إلى دور العمال ومعاناتهم وأهم انشغالاتهم وتطلعاتهم، والعمل على تأمين متطلبات عيش كريم. ولا يزال جل عمال العالم عامة والعمال العرب على الخصوص، يعيشون نفس المتاعب ويضعون نفس المطالب ويقومون بنفس الحركات الى يومنا هذا.وأغلبهم يعتقد جازما أن الرأسمالية وما يرافقها من مظاهر الأحتلال والإستعمار، هي الحجرة العثرة أمام تحقيق العدالة الإجتماعية والحرية والسلم.
وإذا كان لكلمة أول ماي- باللغة الإنجليزية مرادف صوتي يعني الهم ألدائم*1،فإن الذكرى في الجزائر تقترن بإسم الإتحاد العام للعمال الجزائريين ،وهو عملة واحدة لوجهين:" باب لمعركة التحرير الوطني ،و منصة للمطالبة بحقوق العمال". له مغزى على أكثر من مستوى. وبذكره يتذكر الجميع بأن العمال الجزائريين واقعين فريسة للاستغلال والإستعمار اكثر من غيرهم ،و يوم أول ماي عندهم ليس مجرد يوم عيد ،رغم أن ما يعنيه ذلك تماما بالنسبة لحقوق العمال هو اصل الصراع فالخصم واحد هو المحتل ورب العمل المستغل(بكسر الغين). الاتحاد العام للعما الجزائريين حرر النقبيين من التبعية وجندهم لتحرير البلاد ، يعود الفضل في ذلك إلى الشهيد "عيسات إيدير" الذي ولد في قرية جمعة صهاريج قرب مدينة تيزي وزو عام 1919 منأسرة متواضعة الحال أتم التعليم الابتدائي بقريته و انتقل إلى مدرسة تكوين الأساتذة ببوزريعة ومنها انتسب إلى المعهد الثانوي "الفرنسي" بتيزي وزو فحصل على شهادة الطور الأول من التعليم الثانوي ، ولم يكمل لعجز أسرته على تسديد النفقات م وهو ما أرغمه على ترك مقاعد الدراسة، وفي سنة 1935 التحق بعمه بالقطر التونسي و تابع دراسته العليا في الاقتصاد بالجامعة التونسية إلى غاية 1938.
التحق بورشة صناعة الطيران كموظف سنة 1944 ورقي إلى رتبة رئيس قسم المراقبة الإدارية مما دفع بإدارة الورشة لإرساله إلى المغرب ليقوم بنفس العمل في مطار الدارالبيضاء.في هذا الوسط العمالي ظهرت ميوله النقابية واهتم بالدفاع عن مصالح العمال الجزائريين، مما دفع برفاقه إلى انتخابه عضوا في اللجنة التنفيذية لعمال الدولة، وهي لجنة تابعة للنقابات الشيوعية الفرنسية .
وحلال القيام بمهامه شعر أن النقابات الفرنسية حتى ولو كانت شيوعية الأتجاه، لا ولن تهتم بالعامل الجزائري بقدر اهتمامها بانشغالات العمال الأوربيين، عاد الى الجزائر وفكرة تأسيس منظمة نقابية جزائرية مستقلة عن النقابات الفرنسية تراوده،فكانت أفكاره إزعاجا للنقابات الفرنسية التي أخذت تسعى لإبعاده عن مناصب المسؤولية . وفي سنة 1951 داهمت الشرطة الفرنسية المصنع الذي كان يشغله والقي القبض عليه برفقة 10 عمال جزائريين ،ولم يطلق سراحه إلا بعد 10أيام فالتحق بوظيفة أخرى ،كان العمل النقابي سببا لسجنه مرة أخرى من قبل السلطات الاستعمارية الفرنسية في 22 ديسمبر 1954.
قبيل اندلاع الثورة المسلحة أطلق سراحه،كان لمساعيه تلك الأثر الكبير في تأسيس أول منظمة نقابية جزائرية متمثلة في24 فيفري 1956،عين أمينا عاما . وا شر ف على تنظيم فروع وخلايا الإتحاد حتى تاريخ توقيفه في 23 ماي 1956 بأمر من "روبير لاكوست" الوزير المفوض بالجزائر وألقي عليه القبض من طرف السلطات الاستعمارية يوم 23 ماي 1956 بسبب نشاطه النقابي وأدخل سجن البرواقية ، ومنه إلى محتشدات "سان لو ،آفلو، بوسوي" ، ثم نقل إلى العاصمة ليوضع بسجن برباروس بتهمة :"النيل من أمن الدولة الفرنسية الخارجي " ؟.وفي يوم 13 جانفي 1959 أصدرت المحكمة العسكرية حكما بالببراءة .
لكنها بقيت شكلية، والقرار لم ينفذ. في مسقط رأسه حيث جمال الطبيعة وعمق الأصالة وحسن الأخلاق، تكاملت عوامل نضاله، وفي الوسط العمالي المتميز، بدأت تظهر ميوله النقابية ،فاهتم بتنظيم العمال،والدغاع عن مصالح الجزائريين، مما دفع برفاقه إلى انتخابه عضوا في اللجنة التنفيذية لعمال الدولة، وهي لجنة تابعة للنقابات الشيوعية الفرنسية وخلال نشاطه ضمن هذه اللجنة شعر بأن النقابات الفرنسية حتى ولو كانت شيوعية الميول لا تهتم بالعامل الجزائري كأهتمامها بقضايا و انشغالات العمال الأوربيين ، يقول محمد درارني، ( باعتباري عضو اللجة المركزية للشؤون الأجتماعية والنقابية أنبه الى ضعف أستفاذة العمال الجزائريين من أنتماء اللجة الى النقابات الفرنسية) وبعد عودة عيسات إيدير إلى الجزائر، بدأت تراوده فكرة تأسيس منظمة نقابية جزائرية . أثارت أفكار عيسات إيدير غضب النقابات الفرنسية فأخذت تسعى لإبعاده عن مناصب المسؤولية .
وفي سنة 1951 داهمت الشرطة الفرنسية المصنع الذي كان يعمل به وألقت القبض عليه برفقة 10 عمال جزائريين ولم يطلق سراحه إلا بعد 10أيام . بعدها التحق بوظيفة أخرى (1949-1954 ) وكان نشاطه النقابي سببا لسجنه مرة أخرى من قبل السلطات الاستعمارية في 22 ديسمبر 1954.قبيل اندلاع الثورة المسلحة أطلق سراحه . توفي عيسات إيدير في 26 جويلية 1959 متأثرا بالتعذيب وقد أثار اغتيال الأمين العام للاتحاد العام للعمال الجزائريين موجة واسعة من الاستنكار والسخط في العالم .
ووردت برقيات الاحتجاج والاستنكار وقتها من المنظمة العالمية للنقابات الحرة ،وجامعة النقابات العالمية ،والاتحاد العالمي للزراعيين، والنقابيين العرب، والنقابات الشيوعية الفرنسية . مع مطالبة الحكومة الفرنسية بتسليط الضوء على الظروف الغامضة التي رافقة استشهاده، هذه لمحة موجزة لنموذج لمعاناة العمال الجزائريين و سيرتنظيماتهم خلال الحقبة الإستعارية،وإن أختلفت في الزمان مع الأوضاع الحالية فالصورة تكاد تكون واحدة، لكن الأختلاف بين ، بين الأمس واليوم في دورالمنظمة العمالية .
لقد شهدت تنظيمات العمل خلال السنوات الأخيرة تحولات و تغيرات بنائية متعددة الجوانب، استجابة للتغيرات التي شهدها النظام الاقتصادي العالمي خلال السنوات الماضية،و كان الهدف من تلك التحولات، هو تحقيق التكيف على مستوى البيئة التنظيمية بشكل خاص والاجتماعية منها عامة. تلك التغيرات لم تحدث بمحض الصدفة ،ولم تكن مفاجئة لأحد، و إنماهي تغيرات مقصودة مدروسة،أراد من خلالها أصحاب المشروعات الصناعية إدخال نوع من الديناميكية على تنظيمات العمل، وتوفيقها مع العصرنة.
و هذا عن طريق تغيير أساليب التسيير القديمة و استبدالها بأساليب جديدة مغايرة تتماشى مع الظروف المستجدة، بالإضافة إلى شبه التوافق على تغيير شكل السلطة الإدارية، "نمط التكنولوجيا المستخدم في عمليات الإنتاج"، طرق تقسيم العمل، و أنساق الاتصال،.و..الخ. لتحقيق المزيد من الفعالية الاقتصادية والتطور الإنتاجي.
إذا كان هذا حال معظم تنظيمات العمل في الأنظمة الرأسمالية التي تطبق قوانين اقتصاد السوق، فان بلدان العالم الثالث و من ضمنها الجزائر قد أقتنعت مسيروها منذ مجيء الرئيس الشاذلي بن جديد عام 1978، بعدم قدرة مؤسساتها على تحقيق المردودية المتوقعة، وأرجعوا ذلك إلى ظروف البيئة التنظيمية التي يسيطر عليها الطابع البيروقراطي ،(محاربة البيروقراطية)الذي ظل يكرس مبدأ الرتابة في تنفيذ مشارع العمل وأهداف الإنتاج، ويحرم الطاقات البشرية و الكفاءات و المهارات من إبرازقدرات الإبداع في ميدان العمل على الرغم من تلك المحاولات التي بذلت على مستوى تنظيمات العمل منذ السنوات الأولى للاستقلال و التي كان القصد منها دائما ،تغيير البنى الاقتصادية و الاجتماعية للمجتمع الجزائري ومحو الآثار الإستعمارية، فإنها لم تتعد حدود التعديلات الشكلية ،كما حدث على مستوى تنظيمات العمل الصناعي خلال مرحلة التسيير الذاتي مثلا" وسجل ظهور تناقضات على مستوى علاقات العمل.
و قد استمرت إلى غاية تطبيق " قوانين التسيير الاشتراكي للمؤسسات " التي كان الهدف منها هو إحداث تغييرات في أبنية السلطة ذاتها ومراكز اتخاذ القرارات، بحيث تضمن المشاركة الفعلية للعمال في القرارات المصيرية داخل المؤسسات الوطنية الصناعية منها والإجتماعية. لكن تحقيق هذا الهدف أيضا ظل مستحيلا بسبب فجوات في نصوص التسيير الأشتراكي، والعراقيل التي كانت تضعها إدارات المؤسسات من أجل إبعاد العامل خوفا على مصالح المسيرين ،وهو ما أقحم الأتحاد العام للعمال الجزائريين خلال السبعيتيات والنصف الأول من الثمانينيات في مشاكل التسيير وأشرك أعضاؤه في تحمل مسئولية أخطاء المسيرين،مما تسبب في بروز أشكال جديدة من المقاومة العمالية على مستوى تنظيمات العمال كرفضهم للواقع التنظيمي القائم حينها واللجوء الى الإضرابات، ولم تستطع تلك المؤسسات أن تحقق النتائج المرجوة منها، خاصة بعد أحداث أكتوبر 1988،وإعلان الرئيس الشاذلي بن جديد رسميا عن مشروع الإصلاحات التي بدأها بكيفية سرية منذ توليه الحكم عام 1978.هذه الوضعية المستجدة دفعت السلطات الرسمية إلى التعجبل بتنفيذ "مشروع الخوصصة في ثوب مستورد" وبأسلوب متوحش شمل أهم المؤسسات الوطنية،وضرب في العمق قدرتها ومصالح العمال على حد سواء.
وجاءت التعددية النقابية كنتيجة حتمية لمجيء التعدية السياسية،وانشطرت مجموعات العمال أفقيا وراسيا،فصارت شظايا مثناثرة متناهية الصغر،واليوم تجد الحركة النقابية نفسها أمام مرحلة صعبة تميزها عوامل وتصرفات، كالتراجع السافر للاتحاد العام للعمال الجزاريين، وميلاد النقابات المستقلة عن الاتحاد،الذي أفرغ من قاعدته بفعل طرد العمال الذي شمل أكثرمن500000،عامل،مع أنحصار دور الأتحاد في تمثيل اليد العاملة المؤهلة ، (كقطاع المالية وشركة سوناطراك وبعض المجموعات في الوظيف العمومي)،إلى جانب انشغال المركزية النقابية بالعمل السياسي ، وخدمة مصالح أفراده على حساب مصلحة بقايا العمال،.
ورغم ما حدث:عمال طردوا ومصانع أغلقت، وأموال حولت أو أتلفت من صناديق الضمان الأجتماعي أو تعاضديات العمال وتخريب القطاع العام والاستلاء على ممتلكاته من طرف أشخاص من أحضان السلطة، فقد تمسكت القيادة الحالية للاتحاد العام للعمال الجزائريين بمساندتها المطلقة للسلطة ،التي قررت التخلي عن الضعفاء والفقراء ،إطارات النقابة تحولوا اليوم إلى لجان المساندة أو موظفين لدى الحكومة، يتجاهلون مصالح العمال،ولا يعملون على إيصال مطالبهم وطموحاتهم الى أرباب العمل، ماذا يقولون اليوم للعمال في عيدهم؟ هل سيفرحونهم بخبر تعديل الدستولر وإقرار العهدة الثالثة؟ أم يقنعونهم بالصبر على مكروه غلاء الأسعار وانعدام مناصب الشغل و..الخ؟ .إنه الجهل السياسي والأمية الأخلاقية.
إن المجتمع تماشيا مع التطوات العالمية ، قد دخل مرحلة جذيدة تتطلب قواعد جديدة، وتنظيمات تعمل بأساليب جديدة، ومسئولين جدد ،وعلى قيادة الاتحاد أن ترجع التنظيم إلى حاله ،وتحرره مثلما حرره الشهيد عيسات إيدير، وعلى السلطة أيضا أن تذرك الواقع وتعترف بالوضع الجديد وتتعامل معه ولو يالحد الأدمى من المعقول.