علاء فاروق "كما جئنا به لابد أن نطيح به" هذا ما أراده الثوريون القرغيز من رئيسهم الذي كان منذ سنوات قريبة محمولاً فوق أعناقهم يخطب فيهم ويعطيهم دروسًا في تطوير الوطن والحفاظ على هويته وممتلكاته.
وما لبثت هذه الدروس أن تبخرت مع الشهور الأولى في قصر الرئاسة، وهذا ما جعل كيل الشعب يطفح ويرفض أن يستمر في ذلك، وفي يوم وليلة فاجأ الشعب العالم أجمع بثورة تكرر سيناريو مارس 2005، والذي انقلب على الرئيس السابق عسر آكاييف، وجاء بالرئيس المخلوع "كرمان بك باكييف".
وفي الأيام القليلة الماضية، احتلت الأحداث في قرغيزيا الساحتين الدولية والعالمية، وصدرت بها الصحف والجرائد صفحاتها الأولي وحل أشخاص كانوا مجهولون على شاشات التلفاز ليطرحوا وجهات نظرهم وآرائهم بعد بيات شتوي استمر سنوات طويلة تحت حكم باكييف، وبرزت أسماء جديدة فوجئنا بأنها كانت تحتل مناصب سيادية في حكومة باكييف، ولكن لم يعرف عنها أحد شيئًا.
والسؤال المهم هنا:
هل من الممكن أن يتكرر سيناريو قرغيزيا الثوري في باقي بلدان منطقة آسيا الوسطى، خاصة أن جميع هذه البلدان تعيش في قمع واستبداد مستمرين؟
وهل ستكون ثورة قرغيزيا بداية خطة التغيير الواسعة للمنطقة، خاصة إذا نجحت هذه الثورة حتى النهاية؟
وللاجابة علي هذه الأسئلة وما شابهها يجب إلقاء الضوء ومحاولة قراءة ما حدث في هذه الجمهورية الصغيرة الحجم والسكان مؤخرًا:
أسباب الانتفاضة الأخيرة :
بصورة مختصرة: يمكن ذكر الأسباب الحقيقية والأساسية في اندلاع ثورة إبريل 2010م القرغيزية، ومن أهمها أن الرئيس المخلوع باكييف سار على نهج سلفه آكاييف؛ ما جعل الشعب يثور وينقلب عليه – وأنا هنا استخدم مصطلح الشعب ولا أكتفي بكلمة "المعارضة".
لأن الشعب هو الأداة الفاعلة في هذه الثورة بجانب رجال المعارضة الذين يمثلون العقل المدبر - وهم بالطبع من أبناء الشعب.
وتولى باكييف السلطة، بعد نجاح ثورة الزئبق عام 2005م، فارتكب نفس أخطاء سلفه عسكر آكاييف، وفي أثناء حكمه وصف نظامه بأنه استبدادي، ما جعل الفساد يستوطن في جميع الإدارات وما زاد الوضع تأزمًا قيام باكييف بتعيين أقاربه وأنصاره في مختلف المراكز الرسمية الرئيسية الحساسة.
فمثلاً عين شقيقه مسؤولاً عن جهاز أمن الدولة، وانتشرت الرشوة والمحسوبية وانتهكت حقوق الإنسان، فلم يثبت أن اعترف المراقبون الدوليون بنزاهة أية انتخابات في البلاد برلمانية أو رئاسية، ومما زاد الأمر تعسرًا سياسة القمع التي انتهجها باكييف وحكومته ضد وسائل الإعلام والصحافة وضد المعارضة.
أضف إلى ذلك حالة الفقر المدقع، حيث ثلث السكان يعيش تحت عتبة الفقر، والتحويلات المالية ل800 الف قرغيزي يعملون في روسيا تشكل 40 % من الناتج المحلي الإجمالي، كل هذا جعل جميع فئات الشعب تنتفض، وتشارك المعارضة في ثورتها الأخيرة، وأوصلتها للحكم الفعلي الآن.
أثناء اندلاع هذه الأحداث، واستيلاء المعارضة على الحكم في قرغيزيا وجدنا كل من واشنطنوموسكو يراقبان ما يحدث بخيفة وحذر فمن المعروف أن كلتا البلدين يوجد لهما مصالح في هذه البلد، وأبرزها القاعدتين العسكريتين "ماناس" الأمريكية و"كانت" الروسية.
والحقيقة أن ردود الفعل كانت متوقعة ومفاجئة في وقت واحد، فتوقع الخبراء أن تسارع كل من موسكووواشنطن ببذل الجهد كي تستقر الأوضاع هناك حفاظًا على مصالحهم هناك، فسارعت الدولتين بالاتصال بالمعارضة في صورة شبه تهنئة لها والاطمئنان على مستقبل القاعدتين هناك. وأعربت كل دولة منهما عن استعدادها تقديم المساعدات التي تحتاجها بشكيك.
والمفاجئ هنا هو تخلي الدولتين عن الرئيس المخلوع وعدم الدفاع عنه أو مساعدته ما جعل بعض المراقبين لا يستبعدون وجود أيد روسية خلف هذه الثورة، وإن كنت لا أرى ذلك مبررًا، حيث ما يحكم سياسة هذه البلاد هي المصلحة وفقط.
فأينما تكون المصلحة فثم وجه هذه الدول، وما الذي يجعل موسكو تخطط لثورات في بلد مثل قرغيزيا، وهي تعرف أضرار الحروب الأهلية أو الثورات، خاصة وأن قرغيزيا هي حديقتها الخلفية.
ومما طمأن البلدين هو التصريحات التي أطلقتها الحكومة المؤقتة من بقائها على القاعدتين، والالتزام بالاتفاقيات المبرمة بين البلدين.
وعند الرجوع قليلاً لتاريخ هذه العلاقات بين بشكيك وواشنطنوموسكو نجد أنه قد بدأ تعامل الولاياتالمتحدة مثلاً مع قيرغيزيا في نهاية عام 2001م عندما قررت واشنطن شن حرب على أفغانستان.
فاستأجرت لهذه الغاية قاعدة جوية "ماناس" بالقرب من العاصمة "بشكيك"، مهمتها تأمين النواحي اللوجستية للقوات المشاركة في الحرب، ونقطة رئيسية لتجمع جنود هذه القوات ومرورهم.
لكن روسيا اعتبرت وجود هذه القاعدة يشكل خطرًا على أمنها القومي، وعلى تحرك قواتها، وأخذت تضغط على الحكم القرغيزي لإغلاق هذه القاعدة، واستطاعت بالفعل الحصول على قرار من باكييف في هذا الاتجاه.
حيث أعلن خلال مؤتمر صحفي مع الرئيس الروسي "ديمتري ميدفيديف" أن السلطات القرغيزية ستتخذ الإجراءات القانونية اللازمة من أجل تطبيق قرار إغلاق القاعدة، إلا أنه رجع عن هذا القرار بعد أن ضاعفت واشنطن بدل إيجار القاعدة ثلاث مرات.
وفي هذه الأثناء كانت روسيا تعمل على خطين، الأول تقديم مساعدات مالية لقيرغيزيا، ومنح قروض مالية ضخمة ميسرة لإقامة مشاريع إنمائية، إلى جانب إلغاء قسم من ديونها المترتبة على هذه الجمهورية.
والثاني عبر منظمة الأمن والتعاون الجماعي التي تضم إلى جانب روسيا ست جمهوريات سوفياتية سابقة، من بينها قيرغيزيا، إقامة قاعدة جوية عسكرية روسية" كانت لا تبعد أكثر من 15 كيلومترًا عن القاعدة الأميركية.
وخلاصة القول في هذا الأمر أن موقف روسيا كان واضحًا، فقد اعترف الكرملين مباشرة بالنظام الجديد، حيث اتصل ميدفيديف برئيسة الحكومة الانتفالية الجديدة، واعدًا بتقديم مساعدة إنسانية، كما أمر بإرسال 150 مظليًا إلى قرغيزستان لحماية عائلات الجنود الروس ال400 الموجودين في "كانت".
إلا أن الموقف واشنطن ما زال غامضًا، وربما يمر بمرحلة ترقب لما ستسفر عنه هذه الثورة التي ما زالت حتى كتابة هذه السطور تسيطر على الوضع لكنها لا تحكم بالفعل، فما زال باكييف موجودًا في البلاد.
تكرار السيناريو:
بعد عرضنا للتجربة القرغيزية أسبابها وردود الفعل عليها ومستقبلها يعرض لنا تساؤل هام وهو ما بدأنا به هذا التقرير: هل من الممكن أن يتكرر سيناريو قرغيزيا الثوري في باقي بلدان منطقة آسيا الوسطى.
خاصة أن جميع هذه البلدان تعيش في قمع واستبداد مستمرين؟، وهل ستكون ثورة قرغيزيا بداية خطة التغيير الواسعة للمنطقة، خاصة إذا نجحت هذه الثورة حتى النهاية؟
والحقيقة أن الإجابة عن هذه التساؤلات صعبة جدًا، حيث إننا نعيش عصر المفاجآت السياسية والشعبية، فمن كان يتوقع أن يتحول عشرات المتظاهرن في تالاس القرغيزية إلى ثورة شعببة عارمة تنجم عنها خلع الرئيس وإبعاده عن العاصمة، والاستيلاء على السلطة؟.
وللمساعدة في تلمس اجابات علي تلك الاسئلة نقدم بعض الروئ وعرض لظروف كل جمهورية من الجمهوريات الأربعة الباقية على حدة:
1- أوزبكستان :
أوزبكستان قد لا تقل انتهاكًا لحقوق الإنسان من قرغيزيا، بل تعتبر هي الرائدة في ذلك، بالإضافة إلى قمعها الشديد المعروف ضد المعارضة و الإسلاميين هناك، لكن هناك فروقًا بين سياسة البلدين.
فقرغيزيا قمع واستبداد وفقر وفساد، أما أوزبكستان فهي تسعى جاهدة إلى وضع نفسها على خريطة الدول المهمة في المنطقة، وقد وصلت لذلك بالفعل فهي من أهم دول وسط آسيا وأكبرها سكانًا "أكثر من 25 مليون نسمة".
كذلك قامت بإصلاحات اقتصادية كثيرة ورائعة، واستطاعت مؤخرًا تفادي تأثير الأزمة المالية العالمية، وخرجت منها أقل تأثرًا من جيرانها، وهي تسعى كذلك لتحسين دخل الفرد، وتوفير فرص العمل بشكل مستمر.
ما سبق يجعل تكرار سيناريو الانتفاضة القرغيزية في أوزبكستان صعب جدًا، حيث يشعر المواطن الأوزبكي أن حياته في تحسن مستمر، فلا يشغل باله بالعمل السياسي، بالإضافة إلى قوة قوات الرئيس الحاكم في قمع أي معارضة.
2- طاجيكستان:
من أفقر بلدان آسيا الوسطى وأقلها مكانة ومساحة، وأيضًا نظامها السياسي لا يقل قمعًا واستبدادًا من النظام القرغيزي المخلوع، فرغم فقر هذه الجمهورية إلا أنها مارست كل أنواع القمع والاستبداد تجاه المعارضة والإسلاميين هناك.
ولكن رغم كل هذا كانت الوحيدة التي سمحت بتأسيس حزب إسلامي على أرضها "حزب النهضة الإسلامي"، بل ومنحته مقاعد في البرلمان ليس معنى هذا أنها دولة ديمقراطية أو تحترم حقوق الإنسان، لكن سواء فعلت ذلك طواعية أو رغمًا عنها، المهم أنه يوجد حزب إسلامي معارض هناك؟.
وهذا يخفف الاحتقان نوعًا ما، أضف إلى ما سبق تجربة هذه الجمهورة في الحروب الأهلية وويلاتها، وهي تعرف جيدًا ما معنى ثورة أو حرب أهلية دفعت وما زالت تدفع ضريبتها من اقتصادها حتى الآن، هذا يجعل مجرد التفكير في ثورة أو انقلاب صعب جدًّا في هذه الجمهورية، لكنه غير مستبعد وغير مستحيل، فأصعب ما يشعر به المرء في وطنه الاضطهاد مع الفقر.
3- كازاخستان:
هي أكبر جمهورات المنطقة مساحة وتتميز بهدوء شعبي نوعًا ما، ورغم أنها لا تختلف عن غيرها من الجمهوريات، لكن ربما تقدم هذه الجمهورية وتحسن دخل الفرد هناك يبعد عن أجندة شعبها مصطلح الثورات أو الانقلاب.
4- تركمانستان:
ربما أفضل وصف للعلاقة بين المعارضة في هذه الجمهورية وبين النظام الحاكم هناك علاقة "دبلوماسية"، وليست تصادمية، فرغم أن هذه الجمهورية لا تختلف أيضًا عن غيرها من جمهوريات المنطقة من قمع واستبداد فإن مشكلاتها الداخلية لم تكن بالخطورة أو الحدة التي تغير المسار السياسي والمصيري للنظام الحاكم .
فرغم تعارض وجهات النظر بين الإسلاميين هناك الذين يطالبون بتطبيق الشريعة الإسلامية وبين نظام الحكم العلماني إلا أن الأخير فضل طريقة التعامل بهدوء وغازل هؤلاء بإصدار الأوامر بتجديد المساجد ودور العبادة وفتحها أمام الناس، وتأسيس مؤسسات دينية وغير ذلك؛ مما خفف حالة الاختلاف الموجودة بينهما.
وهكذا تعيش تركمانيا منذ استقلالها في جو هادئ من باب "لا ضرر ولا ضرار"، وهذا أيضًا يجعلنا نستبعد تكرار ما حدث في قرغيزيا هناك، حيث طبيعة الشعب هناك الهدوء والتسامح.
ما سبق ما هو إلا وجهة نظر ربما تكذبها ثورة هنا أو انقلاب هناك، لكننا حاولنا أن نقرأ أحداث قرغيزيا قياسًا على الحالة السياسية المحتقنة التي تعيشها منطقة آسيا الوسطى.
و يبدو أن كل جمهورية لها خريطتها السياسية الخاصة بها، فمنها من يسلك طريق الثورات كقرغيزيا، ومنها ما يفضل طريق الإصلاح عن طريق المشاركة السياسية في البرلمان أو الأحزاب مثل طاجيكستان، ومنها ما يفضل الهدوء والبعد عن الثورات كشعوب كازاخستان وتركمانستان.