في الوقت الذي مازال فيه العرب عاجزين أو غير قادرين علي مفارقة الخيار الذي ابتدعوه, لحل الصراع مع إسرائيل بعد ان توقفوا عن إدارته وهو الخيار الذي حمل منذ مؤتمر مدريد للسلام عام(1991) اسم عملية السلام, وفي الوقت الذي أكد فيه الإسرائيليون أن هذه العملية, وبالذات منذ توقيع اتفاقية أوسلو للسلام مع الفلسطينيين( او مع فصيل منهم) عام1993 نجحت في ان تخلق للعرب حالة من السلام الوهمي الذي غطي علي أصوات الجرافات الإسرائيلية التي واصلت النشاط التوسعي الاستيطاني في القدسالشرقية( المحتلة) والضفة الغربية المقترن بتهويد الارض والشعب.
وفي الوقت الذي وصلت فيه عملية السلام تلك الي طريق مسدود باعتراف جميع أطرافها بعد ان استنفدت كل أغراضها للإسرائيليين ولم تحقق شيئا للعرب سوي الخسران المبين للحقوق وللمكانة وللتماسك والتوحد حول قضية مركزية كانت قادرة علي لم شملهم.
لم تكتف إسرائيل بأن تمتلك أقوي قدرات وكفاءات عسكرية في المنطقة بدعم أمريكي كامل, ولم تكتف بأن تكون رأس رمح المشروع الغربي الاستعماري التاريخي لكونها الدولة الصهيونية القادرة علي تحقيق أهداف هذا المشروع في وطننا العربي ولكنها تتحول من دولة صهيونية الي دولة يهودية بكل ما يعنيه ذلك ويتضمنه من احتمالات حدوث تحولات جذرية في خصائص الدولة الاسرائيلية وأهدافها واستراتيجياتها العليا, وأنماط تفاعلاتها الإقليمية والدولية وبالذات موقفها من العرب خاصة من الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة ومستقبل مشروع السلام.
ربما يكون السؤال المهم بهذا الخصوص هو هل يعني تحول إسرائيل لأن تكون دولة يهودية ألا تكون دولة صهيونية, بمعني: هل التحول الي اليهودية يعني التحول عن الصهيونية, أو أن دولة إسرائيل ستدخل أعلي مراحل تطورها بالتحول إلي أن تكون دولة يهودية علي غرار تحول الاستعمار كمشروع إلي الإمبريالية باعتبارها أعلي مراحل تطور الظاهرة الاستعمارية والمشروع الاستعماري معا ؟
أنا أتصور أن هذا التحول هو المعني الصحيح لما يحدث للمشروع الصهيوني هذه الايام, حيث يجري تطوير إسرائيل من دولة لليهود, أي دولة يعيش فيها اليهود جنبا الي جنب مع غيرهم في فلسطين علي نحو ما نص عليه وعد بلفور, وعلي نحو ما كان يهدف المشروع الاستعماري الغربي, إلي دولة يهودية خالصة لا يعيش فيها غير اليهود, أي دولة النقاء العنصري والنقاء الديني معا.
هذا التصور يبدو غير مكتمل المعالم, في ظل غياب حسم أمرين: أولهما, حدود هذه الدولة الإسرائيلية. فالمعروف أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي ليست لها حدود واضحة ومحددة. إسرائيل حدودها مرنة قابلة للتوسع حيثما كان هناك سبيل للتوسع, لكنها في نظرهم غير قابلة للانكماش.
لذلك فإن الحديث عن إسرائيل دولة يهودية يقودنا للسؤال عن أي إسرائيل: هل إسرائيل بحدود قرار التقسيم عام1948 ؟, أو هي حدود عام1967, أو هي الحدود التي تريدها الحكومات الإسرائيلية, أي الحدود التي تكفل كل متطلبات الأمن الإسرائيلي, أو الحدود التي يمكن الدفاع عنها وهي من الناحية الجغرافية تستوعب القدسالشرقية كاملة ومعظم أراضي الضفة الغربية, أو هي الدولة التي تضم كل أراضي فلسطين وتكون قادرة علي تحقيق الجزء الأهم من الحلم اليهودي, وعندما يكون علي الشعب الفلسطيني أن يبحث عن دولته خارج فلسطين في دول الجوار( خاصة الأردن ومصر) أو في الشتات؟
لو اكتفينا بالمضمون الجغرافي المحدود للدولة الإسرائيلية حسب مشروع الحكومة الإسرائيلية الذي يري أن حدود إسرائيل يجب أن تمتد لتضم القدسالشرقية وجوارها وكل المستوطنات المهمة في الضفة الغربية, فإن أولي ضحايا هذا المشروع سيكون الشعب الفلسطيني المقيم داخل الدولة الإسرائيلية منذ عام1948, والذي يزيد عددهم الآن عن مليون ونصف مليون مواطن فلسطيني يحملون الجنسية الإسرائيلية.
أما باقي الضحايا فهم كل اللاجئين الفلسطينيين الذين أجبروا علي اللجوء عام1948, فضلا عن إجبار الشعب الفلسطيني عن التخلي كلية عن حق العودة للاجئين برغم أنه من الحقوق المعترف بها دوليا باعتبارها حقوقا غير قابلة للتصرف.
لكن لو أخذنا المضامين الجغرافية الأخرى في الاعتبار فإن الكارثة سوف تتضاعف حتما وسوف تتجاوز التداعيات حدود فلسطين الي الجوار العربي.
الأمر الثاني الذي يجعل التصور الذي نتحدث عنه غير مكتمل المعالم يتعلق بدور الدين في هذه الدولة اليهودية المأمولة, هل التحول الإسرائيلي إلي دولة يهودية معناه فقط ان تكون المواطنة مقصورة علي اليهود وحدهم دون غيرهم, أو أنها ستكون دولة دينية؟
حتي الآن يمكن القول ان هناك انقساما غير محسوم النتائج بين العلمانيين اليهود( من يساريين وليبراليين) الذي يريدون إسرائيل دولة يهودية خالصة للشعب اليهودي, وبين اليمين الديني الذي يريدها دولة دينية يهودية محكومة بالتشريع التوراتي.
هذا الانقسام ربما يكون مؤقتا نظرا لأن توازن القوي بين العلمانيين الذي يريدون إسرائيل دولة للشعب اليهودي محكومة بقوانين وضعية وديمقراطية وبين اليمين الديني الذي يريدها دولة دينية يهودية أي دولة توراتية للشعب اليهودي وظيفتها الأساسية هي تحقيق كل أحلام شعب الله المختار التي لم تكتمل إلا بإعادة بناء هيكل سليمان علي أيدي المسيح الذي سيعود حتما لأداء هذه المهمة, يسير في صالح هذا اليمين الديني, الذي بدأ يفرض الفتوي الدينية التي يبتدعها الحاخامات كواحدة من أهم مصادر التشريع الحاكمة للدولة الإسرائيلية, والذي بدأ يتحرك باتجاه تفريغ إسرائيل من سكانها العرب الغرباء أو( الجوييم) والمطالبة بإصدار تشريعات تقضي بقتلهم والقضاء عليهم وإجبارهم علي الخروج من دولة إسرائيل.
تزامن الهجوم الضاري للحاخام عوفاديا يوسف الأب الروحي لحركة شاس علي الإسلام والمسلمين واصفا الإسلام بال قبيح وكذلك المسلمون مثل دينهم, مع إحراق مسجد في قرية ياسوف بمنطقة نابلس, ومع دعوة وزير القضاء الإسرائيلي يعكوف نيئمان إلي تحول إسرائيل إلي دولة دينية, والعودة الي الشريعة والاحتكام إلي التوراة في القوانين التي تحكم إسرائيل لانها توفر إجابات لجميع الأسئلة التي تشغل بال الإسرائيليين يؤكد ويدعم انشغال اليمين الديني بتحويل الصراع مع العرب الي صراع ديني مسنودا بإعلام مكثف يفرض الرموز الدينية من قيم ومبادئ وشخصيات لتهيمن علي العقل السياسي والاستراتيجي الإسرائيلي
وذلك بالترويج لأدوار قامت وتقوم بها رموز دينية لدعم مفهوم الدولة الدينية علي غرار ما يروج من أدوار مزعومة ل السيدة راحيل الزوجة الثانية للنبي يعقوب عليه السلام والدة النبي يوسف عليه السلام من دعم مباشر ومؤكد لجنود اسرائيل في حربهم ضد حركة حماس في حرب( ديسمبر2008 يناير2009) الأخيرة,
وعلي غرار تأكيدات كبار حاخامات إسرائيل بأنهم من قتل الزعيم المصري جمال عبد الناصر بالسحر الأسود انتقاما منه لكل ماقام به ضد إسرائيل. تأكد احتمالات نجاح سيطرة مفهوم الدولة الدينية علي المفهوم العلماني للدولة اليهودية المأمولة يضاعف هو الآخر من مخاطر الكارثة ويقودنا حتما إلي السيناريو التوراتي لإدارة الصراع ضد العرب.
تحولات خطيرة, لكنها مجرد بدايات, لا تعدو أن تكون مجرد شرارة أو شرارات لجحيم من التداعيات التي سوف تصاحب هذه التحولات.
* خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية جريدة الأهرام 22/12/2009