منذ المؤتمر الصهيوني التأسيسي الأول الذي عقد في مدينة بازل السويسرية عام1897, كانت, ومازالت الدولة اليهودية هي هدف الحركة الصهيونية العالمية, وإذا كانت المنظمات الصهيونية قد التقت حول هذا الهدف مع مقررات المؤتمر الاستعماري الأول الذي عقد في العاصمة البريطانية لندن(1905_1907) تحت رعاية وإشراف وزير المستعمرات البريطانية. حينذاك, كامبل بنيرمان, ورأت ضرورة التعاون الوثيق لتحقيق هدف الدولة اليهودية كل حسب مصالحه( الصهاينة والمستعمرون الغربيون), فإن الحركة الصهيونية ظلت حريصة علي إخفاء مفهومها الخاص لهذه الدولة اليهودية الذي اختلف منذ اللحظة الأولي مع الهدف الذي أراده المستعمرون الغربيون علي نحو ما أصدروه من قرارات بهذا الخصوص وأولها قرار إقامة دولة لليهود في فلسطين الذي حمل عنوان' وعد بلفور' الصادر عن وزير خارجية بريطانيا عام.1917 مؤتمر كامبل بنيرمان الذي رأي أن منطقة الجنوب الشرقي للبحر المتوسط هي أخطر بؤر الخطر علي المشروع الاستعماري الغربي وقرر, من أجل مواجهة هذا الخطر, الحيلولة دون وحدة العرب من ناحية, والإبقاء علي تخلفهم ومنع امتلاكهم للعلم الحديث من ناحية أخري, كي يمكن السيطرة عليهم, قرر أيضا إقامة الدولة اليهودية في فلسطين لتحقيق هذين الهدفين. فإقامة هذه الدولة في فلسطين سوف يحول دون ربط الشرق العربي بالمغرب العربي, والأهم عزل مصر عن تطورات المشرق العربي الساخنة, كما أن إقامة هذه الدولة سيؤدي إلي استنزاف العرب في حروب مستمرة من شأنها أن تحول دون تفرغهم لبناء التقدم وتأسيس قاعدة علمية قوية من أجل هذا البناء. من هنا التقت مقررات هذا المؤتمر مع القرار الأهم للمؤتمر الصهيوني الأول الذي سبق انعقاده مؤتمر كامبل بنيرمان بسبعة أعوام فقط, حيث رأي الصهاينة أن إقامة وطن لليهود في فلسطين خطوة أساسية لتحقيق الهدف الاستراتيجي وهو إقامة الدولة اليهودية. فوعد بلفور الذي بلور وجسد المعني الذي تم التوصل إليه في مؤتمر كامبل بنيرمان كان يتركز حول إقامة وطن لليهود في فلسطين, أي وطن يعيش فيه اليهود مع غيرهم من العرب مسلمين ومسيحيين في فلسطين, لكن الهدف الصهيوني كان إقامة وطن يهودي في فلسطين أي تحويل فلسطين إلي دولة يهودية, أي دولة لليهود فقط دون غيرهم بكل ما يعنيه ذلك من إنهاء كامل لوجود الشعب الفلسطيني والوطن الفلسطيني واستبدالهما بوطن آخر هو الوطن اليهودي وبشعب آخر هو الشعب اليهودي. وإذا كان قد جري اختراع الوطن اليهودي عبر الأساطير والخرافات التوراتية, فقد جري أيضا اختراع الشعب اليهودي علي نحو ما تضمن مؤلف شلومو صاند الذي حمل العنوان نفسه' اختراع الشعب اليهودي', عبر الأساطير والخرافات, بادعاء مفاده أن اليهود يمثلون شعبا واحدا له سمات مشتركة, وأن تشتتهم ومعاناتهم علي مدي ألف سنة لم ينتقصا من سماتهم المشتركة والمتميزة, وأن الطريقة الوحيدة التي تمكنهم من العيش بحرية كيهود, مثلما يعيش السويديون كسويديين, هي الحياة في دولة يهودية. ويعتبر كتاب' تاريخ اليهود من الأزمنة القديمة إلي أيامنا' لصاحبه هيرنيش جريتز, والذي ظهر في الخمسينيات من القرن التاسع عشر أهم مؤلف استطاع أن يساهم بالجهد الأكبر في صياغة واختراع أسطورة' الشعب اليهودي', حيث عمل علي صقل الهوية القومية لليهود, وبلورة الهدف الاستراتيجي للحركة الصهيونية وأطماعها في فلسطين. ففي هذا المؤلف حرص جريتز علي أن يؤكد أن' اليهود لا يدخلون إلي هذا البلد( فلسطين) بغرض البحث فيه عن المراعي, والإقامة فيه في سلام, جنبا إلي جنب مع رعاة آخرين. إن مطالبهم أكثر سموا, إنهم يطالبون بكل أرض كنعان, إن هذه الأرض تحتوي علي قبور أعدائهم'. هذا هو جوهر الاختلاف بين' الوطن اليهودي' الذي تضمنه وعد بلفور, وبين' الدولة اليهودية' التي أرادها الصهاينة وعملوا من أجلها منذ تأسيس المنظمة الصهيونية العالمية. وإذا كانت هذه الدولة هي الآن محور المشروع السياسي للحكومة الإسرائيلية الحالية بزعامة بنيامين نتنياهو ويضعها شرطا للقبول بفكرة إقامة دولة فلسطينية, فإنها تواجه تحديات داخلية إسرائيلية تفوق كثيرا ما تواجهه من تحديات خارجية سواء كانت عربية أو دولية بين من يريدون هذه الدولة اليهودية دولة ديمقراطية علمانية ومن يريدونها دولة دينية توراتية. أحد معالم هذا الصراع عبرت عنه تسيبي ليفني زعيمة حزب كاديما المعارض في محاضرة لها أمام المؤتمر السنوي ل' مركز بحوث الأمن القومي_ جامعة تل أبيب' الذي حمل عنوان' الرؤية الدولية في مواجهة الواقع الإقليمي' وعقد يوم14 ديسمبر الماضي, عندما دافعت عن ضرورة إقامة الدولة اليهودية, أي دولة الأغلبية اليهودية أو النقاء اليهودي. فقد أكدت ليفني أن' الرؤية الصحيحة لدولة إسرائيل يجب أن تقوم علي أساس دولة يهودية ديمقراطية, دولة تكون الغالبية فيها لليهود, هذه هي الرؤية الصهيونية الأساسية التي يجب حسمها'. ليفني في معرض دفاعها عن هذه الدولة اليهودية أعطت الأولوية ليهودية الدولة ونقائها العنصري علي مساحتها أي علي هدف توسيع حدود الدولة لتضم كل ما يسمونه ب' أرض الميعاد', علي الأقل كمرحلة أولي, ومن منطلق التفاعل مع الواقع الدولي والإقليمي وتحدياته التي قد لا تسمح بتمكين إسرائيل من تحقيق هذا الهدف الآن. هذا القبول الجزئي والمرحلي بإقامة الدولة اليهودية علي ما دون ما يسمونه ب' أرض إسرائيل' كان واعيا بضرورة أن تكون هذه الدولة ديمقراطية وليس دينية, من هنا جاء تحذير ليفني من تحويل الصراع مع العرب إلي صراع ديني ومن تحويل إسرائيل إلي دولة دينية لأن صراعا من هذا النوع سيصعب حله في ظل تنامي الإسلام السياسي كمشروع وكمنظمات مقاومة. ومن هنا أيضا كان رفض ليفني لدعوة وزير القضاء الإسرائيلي يعكوف نيئمان بتحويل إسرائيل إلي دولة دينية, والتخلي عن القوانين الوضعية والعودة للحكم بالشريعة التوراتية, والتي التقطها الحاخام عوفاديا يوسف بدعوة الإسرائيليين للاحتكام إلي المحاكم الشرعية. ليفني قالت:' هذه الفكرة يجب أن تقلق كل مواطن يهمه ما يحدث في دولة إسرائيل علي صعيد قيمها الديمقراطية'. رفض ليفني وغيرها من العلمانيين أو الديمقراطيين لا يستطيع أن يقف أمام تيار ديني جارف يسعي إلي فرض الدولة اليهودية' دولة دينية', ويسعي إلي فرض الأساطير التي اخترعوا منها أكذوبة' الوطن اليهودي' و'الشعب اليهودي' كواقع يحكم هذه الدولة ابتداء من الحكم بالشريعة اليهودية كبديل للقوانين الوضعية وربما يصل الأمر إلي أن يتطور الاحتكام إلي' الفتاوي الدينية' والتوسع في الأخذ بهذه الفتاوي, والترويج للأساطير والخرافات إلي فرض حكم' رجال الدين' بما يعنيه من صراع هائل بين منظومة القيم الحاكمة في هذه' الدولة اليهودية الدينية', وعندها قد لا يكون الصراع الداخلي علي القيم أقل عنفا أو أقل خطرا علي وجود إسرائيل من الخطر الخارجي الذي يتولي أمره الجيش الإسرائيلي.