الأميركيون مولعون بصياغة كلمات، لتتحول من كثرة تداولها داخل بلادهم وخارجها إلى مصطلحات ضمن لغة الخطاب السياسي، مثل مصطلحات: صراع الحضارات، ونهاية التاريخ، والدولة التي لا غنى عنها، والدولة الاستثنائية، والدولة المارقة، والدولة الفاشلة، والفوضى الخلاقة، وغير ذلك الكثير..
ويبدو أن وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون تسير على الدرب، بالتعبير الذي استخدمته أخيراً، وهو الصبر الاستراتيجي strategic paitenrece وهو تعبير قد يصلح للتعامل مع دول تكون طرفاً في أزمات ومشكلات إقليمية أو دولية، لكن التعامل به مع "إسرائيل"، يفقده مفعوله، ويجعله بلا طائل من ورائه.
إن "إسرائيل" حسب مفاهيم علم النفس السياسي هي حالة نفسية، أكثر من كونها دولة بل إن ما يطلق عليه الرأي العام الإسرائيلي، لا يعد في واقع الأمر، رأياً عاماً بالمعنى المتعارف عليه في كل دول العالم، بل إنه توجه عام يتشكل في صورة ما حسب ظروف اللحظة التي تمر به، وتتحول به من هذا الاتجاه إلى نقيضه، وإن كان المستوطنون ذوو النزعة الموغلة في التعصب، هم من يمكن أن يطلق على توجههم أنه رأي عام.
والمعايير التي تقود الرأي العام في مرحلة أو أخرى، هي معايير مزاجية، تتدخل في صنعها أساسا المؤسسة العسكرية، والقيادة السياسية، والحريصة على أن ترسخ في عقول الإسرائيليين، مخاوف دائمة مما يحيط بهم، حتى يظلوا في حالة استنفار عدائي، بما يتيح لهاتين المؤسستين، الحارس على المشروع الصهيوني، ضماناً ألا يموت هذا المشروع.
المزاج النفسي الإسرائيلي كان موضوع دراسة للمطبوعة الأميركية الرصينة political psychology المتخصصة في الدراسات التحليلية للسياسات الخارجية، قالت فيها: إن جانباً مهماً من الإسرائيليين لا يزال ينظر إلى الأحداث من زاوية حالتهم المزاجية السائدة، تجاه النزاع مع العرب، ولا يستطيعون أن يستوعبوا التغييرات الجارية من حولهم، أو أن يتواءم تفكيرهم معها.
هذه الحالة التي استحكمت في عقل حكومة نتانياهو، جعلتها تبدو وكأنها وضعت نفسها في خندق، لا تريد أن تخرج منه، أو أن ترى ما يجري على المستوى الأعلى من قاع الخندق، ولعل هذا كان أحد الأسباب وراء ظهور حركة J.street من داخل مجتمع اليهود الأميركيين، والتي ضمت شخصيات يهودية أميركية لها ثقلها، ومعروف عنهم أنهم من أنصار "إسرائيل"، ليعلنوا رفضهم التام لسياسات حكومة نتانياهو بدافع من خوفهم على "إسرائيل" وشعبها من كارثة تجلبها سياسات حكومة نتانياهو.
والآن وقد مرت تسعة أشهر على وجود أوباما في البيت الأبيض، وثبت أن التعامل مع الحالة الإسرائيلية، لا يصلح معه أسلوب الصبر الاستراتيجي، وهو ما يعكسه أسلوب أوباما الذي يفصل الحوار والإقناع طويل النفس، وهو ما تأكد لأميركا تاريخياً عدم جدواه مع "إسرائيل".
فهي لديها عادة مزمنة، بأن تصل إلى أقصى درجات التشدد والعناد، مع أي رئيس أميركي، ولا تتراجع إلا إذا واجهت موقفاً أميركياً حازماً، يردع عنادها.
وهو ما تحدث عنه بوضوح الكاتب الأميركي المعروف جوكلين الذي قال: إن مطالبة أوباما ل"إسرائيل" بتجميد الاستيطان، لن تكون فعالة، إلا إذا كانت مصحوبة بتهديد صريح بقطع المعونة عنها.
والمعونة بالنسبة ل "إسرائيل"، لا تقتصر فقط على المساعدات المالية، لكنها شبكة متشعبة في كياناتها السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وتمس العصب النفسي الحساس للإسرائيليين، فهي متداخلة في الكيانات الإنتاجية ل "إسرائيل"، وعلى سبيل المثال فإنها تسهم في إنتاج الصناعات العسكرية الإسرائيلية، ثم تستورد منها نوعيات من السلاح المنتج بمشاركتها على أنه صناعة إسرائيلية، كما تساعدها في فتح أسواق لإنتاجها وترويجه في دول العالم، خاصة إنتاج صناعتها العسكرية.
والتهديد بقطع المعونة له سوابق، أبرزها تهديد أيزنهاور بمعاقبة "إسرائيل" وقطع المعونة عنها عام 1957، حتى تنسحب من سيناء، وقرار بوش الأب، بوقف إمدادها بقرض قيمته عشرة مليارات من الدولارات، بل إن الرئيس جيرالد فورد، هدد عام 1975 بإعادة النظر في مجمل السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وهو ما أرغم حكومات "إسرائيل" على التراجع فوراً، والإذعان لما طلبه الرئيس الأميركي.
إن "إسرائيل" مجتمع يحكمه تفاعل متناقضات، فالمفترض أنها تتعامل واقعياً مع مجتمع دولي تنتمي إليه لكنها ترسم سياساتها خضوعاً لعقيدة ألبستها رداء دينياً، وهي تقنع شعبها بأن هذه الأرض كلها ملك لها منذ آلاف السنين، وأنها تستعيدها بالحق الديني والتاريخي، وهي جغرافياً جزء من الشرق الأوسط، لكنها في عقلها الواعي ترفض الروابط المعنوية لهذا الواقع الجغرافي، وترى نفسها جزءاً من المجتمعات الغربية.
وهي عضو في الأممالمتحدة ومنظماتها، التي اعتبرت تصفية الاستعمار في الخمسينيات وأول الستينيات، تتويجاً إنسانياً ونبيلاً، لكفاح الشعوب، بينما هي في الوقت نفسه دولة استعمارية تحتل أراضي شعب آخر بالقوة، وتمارس معه أعتى صنوف القمع والبربرية، و"إسرائيل" تعيش في عصر، يشهد فيه العالم بداية تغيير جوهري في العلاقات الدولية، وتحولات في مراكز القوة والنفوذ، لكن عقلها مصبوب في قالب المشروع الصهيوني الذي ولد في القرن التاسع عشر.
وإلى اليوم لم تشهد مناقشاتهم الاستراتيجية، وأيضاً مؤتمراتهم السنوية التي تعقد بمناسبة الاحتفال بذكرى إنشاء "إسرائيل"، وآخرها المؤتمر الستون في عام 2008، أي تغيير في لهجة خطابهم العقائدي تجاه الدولة اليهودية ومستقبلها، أو حقوق الفلسطينيين، والاحتلال، وثقافة الخروج على القانون الدولي، وانتهاك حقوق الإنسان.
وهي اللهجة نفسها التي ظهرت في اجتماع المؤتمر اليهودي العالمي الذي عقد في "إسرائيل" يناير 2009 تحت شعار نحن نقف مع "إسرائيل"، ولم تعلن كلمة واحدة عن حقوق الفلسطينيين، أو رفض للممارسات التي تتخذ معهم.
إن طريقة رئيس حكومة "إسرائيل" في التعامل مع أي بادرة لا ترضاها في موقف أميركا من عملية السلام، ثابتة لا تتغير، فهي تدفع بالمواجهة إلى قرب حافة الهاوية، مستخدمة مخزونها من أوراق الضغط، بحشد المنظمات اليهودية في الولاياتالمتحدة، واللوبي اليهودي في الكونغرس، والمؤسسات النشطة في الإعلام، ومراكز البحوث، إلى جانب الجماعات غير اليهودية المتعصبة ل "إسرائيل"، والتي لا تخفي عداءها للعرب، وأبرزها ائتلاف اليمين المسيحي، وهو تجمع منظم في إطار الحزب الجمهوري.
ولما كان الشيء بالشيء يذكر، فإنني أذكر ما حدث في أكتوبر عام 1998 أثناء مفاوضات نتانياهو وعرفات بحضور الرئيس كلينتون، والتي عرفت بمفاوضات واي ريفر، فإننا أبلغنا وكان إبلاغاً للمراسلين في واشنطن أن البيت الأبيض سوف يصدر الليلة بياناً يتضمن خطة الرئيس الأميركي النهائية لتسوية النزاع، وقبيل الموعد المحدد، كان الثلاثة كلينتون وعرفات ونتانياهو، في المكتب البيضاوي للرئيس، يتلقون أسئلة الصحفيين، قبل أن يبدأ الاجتماع المغلق وفجأة وجه أحد هؤلاء الصحفيين سؤالاً إلى كلينتون عن حكاية علاقته مع مونيكا لوينسكي.
نزل السؤال على كلينتون كالقنبلة، ولم يكن أحد حتى هذه اللحظة قد سمع باسم مونيكا، لكن الفخ كان معداً ليقع فيه كلينتون في هذا التوقيت، وفوجئنا نحن بأن الخطة التي حدثونا عنها، لم تعلن وراحت في دروب النسيان.
إن الصبر الاستراتيجي لن يصل بأوباما إلى نتيجة، والخوف أن يكون في آخر طريق صبره، فخ يجهزونه له، ولعله يعيد قراءة تاريخ مواقف لرؤساء سبقوه مع الحالة الإسرائيلية.