الديمقراطية المستنيرة بالايمان والعدالة هي الحل نصوح المجالي يخوض حزب العدالة التركي هذه الايام معركة قضائية وسياسية جوهرها تحديد الهوية السياسية والثقافية للدولة التركية المعاصرة. وخلافاً لما يجري في ساحات اسلامية اخرى، فالتيار الاسلامي الحاكم المستهدف من القوى العلمانية، التي تترصده وتخشاه يبدو اكثر انسجاماً وقرباً من الديمقراطية المعاصرة وقيمها، بينما التيار العلماني المناهض لحزب العدالة وللقوى الاسلامية في تركيا، يمثل القوى والنخب السياسية المسلطة على الحكم بقوة الجيش، ورفض الخيارات الاخرى، وهي نفس القوى التي حكمت تركيا منذ بدايات القرن الماضي ونصبت نفسها وصية على تركيا، وأدى فشلها في الحكم الى ازمات سياسية وانقلابات عسكرية وتدهور اقتصادي اضر بالامة التركية. لقد نجح حزب العدالة التركي في تقريب الاسلام الى الديمقراطية، فحاز على الاغلبية في البرلمان والشارع التركي واحتل منصبي رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، واستطاع ان ينهض اقتصادياً بتركيا بشكل ملحوظ، وأن يحسّن من صورتها في العالم، وأن يقيم جسوراً من التعاون مع جوارها المسلم، ومع دول الغرب وخاصة اوروبا دون التفريط بهوية وقيم تركيا الاساسية، ولم يتعرض حزب العدالة الاسلامي بالعداء للعلمانية التركية بل حاول التعايش معها، وتجنب الاصطدام بها، وحسم القضايا الخلافية بينه وبين القوى العلمانية بالطرق الديمقراطية، فالمعركة الدائرة اليوم في تركيا بين قوى اسلامية معتدلة ومتنورة بالديمقراطية والاسلام، وبين قوى علمانية تخشى ان تخسر مواقعها ونفوذها من خلال العملية الديمقراطية. لقد كانت حجة القوى المناهضة للاسلام في الغرب تحديداً، التعميم بعدم ديمقراطية الاسلام، واشتمال تعاليم الاسلام على حدود، وثوابت تحد من خيارات الناس في تصريف شؤون حياتهم، هذا من وجهة نظر الحضارة الغربية ومفاهيمها، التي تقوم اساساً على الخيارات الفردية. والفارق ان ديمقراطية الاسلام تنبع من اجماع المسلمين على الثوابت في دينهم عن قناعة وايمان، وهي ما يتصل بالحلال والحرام، أي ان التكليف فيها لا يتغير باجتهاد انساني، أو بتغير الزمن. اما تصريف شؤون حياتهم بما يتصل بالخير الذي يمثل الصالح العام والخاص، والشر الذي يمثل الضرر بالمصالح العامة والخاصة فتم وفق ظروف حياتهم وعصرهم وتباين اجتهاداتهم حول معنى الخير والشر، وحوّل الدعوة للمعروف الذي يصب في الصالح العام والخاص وتجنب المنكر الذي يضر بالصالح العام والخاص والاهتداء بأحكام الشريعة، وما انزل على النبي صلى الله عليه وسلم من وحي او هدي في شؤون الحياة للقياس عليه، مع عدم اغفال دور العقل الانساني في استنباط الاحكام التي تعظم الخير للمسلمين وتدرأ الشر عنهم وفق ظروف حياتهم. التجربة التركية بنت تجربتها على قاعدة الاعتدال الديني والسياسي وسعت لزرع الهوية والقيم الاسلامية التركية، في قلب الممارسة الديمقراطية، ليبدو الاسلام قادراً على استيعاب التجربة الانسانية الحديثة في الديمقراطية وممارسة الديمقراطية الحديثة بروح اسلامية، فلا ضير ان يحل الانتخاب محل البيعة من الناس، وان لا تحمل الحرية الديمقراطية قيوداً مفروضة على خيارات الناس تحد من حريتهم في التعبير عن هويتهم ومعتقداتهم، وان يكون اغلبية الناس رقباء على مسيرة الحكم، وقادرين على تصحيحها عبر الانتخاب الحر. في العديد من البلدان الاسلامية تعمل بعض التيارات الاسلامية تحت شعار الاسلام هو الحل دون ان توضح التفاصيل الدقيقة والاليات العملية التي تندرج تحت هذا الشعار، والتي تحدد مدى انسجام اصحاب هذه الدعوات من الديمقراطية المعاصرة ومساحة الحرية المتروكة في شؤون الدنيا لخيارات الناس واجتهاداتهم. ولهذا بدا هذا الشعار وكأنه الخيار الذي يرفض ما عداه من خيارات وبالتالي يرفض تداول السلطة بمفهومها المعاصر. الخيار الاسلامي في تركيا يطرح نفسه على انه الخيار الاسلامي المعتدل، والمتعايش مع الخيارات الاخرى والقادر بالتجربة العملية على ممارسة الديمقراطية على قاعدة العيش المشترك والتعدد السياسي والحوار والتفاهم وان الاسلام يصلح لان يكون قاعدة للحل السياسي والاجتماعي في المجتمع المسلم الحديث، أي انه وضع التجربة العملية التي تقيم الحل محل الشعار الذي لا يشكل وحده حلاً، مؤكداً ان الاسلام المعتدل قادر لأن يكون معاصرا، ومركز ثقافة وهوية الامة بدون تطرف او انغلاق على معطيات وثمار وحقائق الحضارة المعاصرة كما انه يصلح لأن يكون حاضنة لقيم الديمقراطية الحديثة وحقوق الانسان، ومظلة للحريات الانسانية، الفارق انه يستمد المعاني المتصلة بهذه القيم والابعاد من تعاليم الاسلام، التي لا تتغير مع الزمن بينما تستمد المجتمعات الاخرى معانيها من القيم الوضعية، التي قد تتغير بتغير القوانين الوضعية وهذا ما يراه الكثير من الباحثين الاسلاميين، الذين لا يجدون تناقضاً بين الديمقراطية الحديثة وآليات عملها، ما دامت تتوخى وتلتزم المساواة والعدالة واحترام الانسان وتوخي الصالح العام وتلتزم باحترام الرأي العام الواعي لحدود الخير والشر، ومصالح الامة. ما يجري في تركيا من استهداف للتيار الاسلامي الحائز على الاغلبية الديمقراطية استبداد بالقضاء الذي صمم اساساً لتكريس وصاية الاحزاب العلمانية في تركيا وتحقيق مكاسب سياسية خارج المضمار السياسي والديمقراطي ونجاح القوى العلمانية في تعطيل التيار الاسلامي الديمقراطي في تركيا، سيعرض تركيا حتماً الى ازمات سياسية واقتصادية تعيد تركيا الى الوراء، وتقلل من فرص تقدمها في العالم، وتبدد مكتسباتها الامر الذي يشكل ضربة للاعتدال الاسلامي الذي يأخذ مكانه بجدارة في مواجهة قوى التطرف التي يتطير منها العالم الغربي. الديمقراطية المتنورة بالايمان والاعتدال والعدالة، وتفهم الاخرين، سواء كانوا شعوباً صغيرة أو كبيرة قد تكون هي الحل، وهذا ما نجحت التجربة التركية الاسلامية في اثباته، رغم ما تواجهه من حصار وعقبات. عن صحيفة الرأي الاردنية 29/7/2008