ثقب يتسع في جدار الأحادية الأمريكية د. محمد قدري سعيد لا أدري علي وجه اليقين السبب الذي دعاني إلي إعادة قراءة وثيقة الأمن القومي الأمريكي الصادرة في سبتمبر2002 بعد سنة تقريبا من أحداث الحادي عشر من سبتمبر. ربما كان الدافع البحث عن مرجعية فكرية يمكن أن تقاس عليها الخيارات الصعبة التي تواجهها السياسة الأمريكية هذه الأيام وبعضها سوف يمس في الصميم مستقبل أمريكا ودورها العالمي. لقد ظهرت هذه الوثيقة في وقتها لتؤسس فكرا استراتيجيا يتناسب مع صدمة11 سبتمبر وتداعياتها العنيفة, والنتيجة أنها جمعت في الوقت نفسه بين الزهو بالتفوق العسكري والاقتصادي الأمريكي علي العالم كله وخروج الولاياتالمتحدة بنصر حاسم في الحرب الباردة وبين دهشة الاكتشاف بأن هذا التفوق يواجه تحديا كاسحا لم يكن في حسبان أحد من قوي الإرهاب العالمي وشبكاته النافذة إلي أعصاب المعمورة, فضلا عن النظم الشمولية الباقية في مناطق مختلفة من العالم. تنبأت الوثيقة بأن الفوضي ستكون السلاح الأول للإرهاب, وأن الخطر العظيم سوف يأتي من تقاطع مسار الرعب مع مسار التكنولوجيا الحديثة وشبكات المعلومات. والمدهش أن الوثيقة وعت أن زمن الحرب ضد الإرهاب سيكون طويلا وسوف تستغرق الحرب عقودا مقبلة. وبرغم أن وثيقة الأمن القومي في أجزاء منها قد دعت إلي التعاون الدولي فإن التفاصيل أوحت بجلاء أن القيادة والمبادرة والفكر ستكون في قبضة أمريكية; والوثيقة بذلك كانت تؤسس لمفهوم' أحادية' القيادة والفكر, و'تعاونية' المشاركة في التطبيق لمن' يرغب' في ذلك. تمثلت الأحادية الأمريكية في فترة حكم الرئيس بوش الأولي في عدد من القرارات كان من أهمها انسحاب الولاياتالمتحدة من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ لأن زمن مثل هذه المعاهدات الموقعة من قطبين أحدهما لم يعد قطبا قد انتهي ولن يعود ثانية في المستقبل من وجهة النظر الأمريكية. وفي آخر مفاوضات مع روسيا لخفض المخزون النووي عند الطرفين الروسي والأمريكي انتهي اللقاء بمجرد اتفاق شكلي لا يتضمن وسائل للتحقيق أو التزاما بتدمير الرءوس النووية المطلوب تخفيضها. وفي الوقت نفسه رفعت الولاياتالمتحدة عن نفسها قيدا يحد من نشرها لنظام دفاع صاروخي كان وقتها في مرحلة التطوير والتجارب. وبذلك اقتربت الولاياتالمتحدة من الانفراد بدرع صاروخية علي المستوي القومي تمكنها من اعتراض الصواريخ المعادية وهي في طريقها إلي الولاياتالمتحدة, وهو انفراد أمريكي لا تقدر علي تكلفته الدول الأخري بما في ذلك روسيا. وبالتوازي مع ذلك_ وخاصة بعد أحداث11 سبتمبر_ تبنت الولاياتالمتحدة مشاريع لتطوير رءوس نووية صغيرة لاختراق الأماكن الحصينة تحت الأرض دون أن تضع في حسبانها أن ذلك يمكن أن يشجع الآخرين علي السير في الطريق نفسه, وربما كانت علي اعتقاد أنها قادرة علي ردعهم عن التفكير في ذلك. كان منطقيا أن تتطلب أحادية القيادة والفكر سيطرة الولاياتالمتحدة علي وسائل الرقابة العالمية. ولم يكن ذلك متاحا بما فيه الكفاية, فموقف الوكالة الدولية للطاقة الذرية من امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل كان متناقضا مع الموقف الأمريكي. وبشكل عام شنت الولاياتالمتحدة هجوما علي الوكالة, وروجت تقييما يدينها بعدم الكفاءة والبطء وغياب الخيال, وأن ذلك قد سمح لدول كثيرة مثل العراق وكوريا الشمالية وليبيا( وإيران بعد ذلك) بخداع الوكالة; والنتيجة إذا تركت الأمور كما هي عليه أن أمريكا ستواجه في مناطق مختلفة من العالم من يمتلك رادعا نوويا يستطيع من خلاله الحد من حرية حركتها الأحادية. ومن أجل ذلك أنشأت الولاياتالمتحدة مؤسسات وأدوات أخري تابعة لها لتقوم بعملية اعتراض وتفتيش السفن والمركبات والطائرات بحثا عن أسلحة دمار شامل, أو مواد أو أجهزة يمكن أن تسهم في تطوير هذه الأسلحة بواسطة دول علي عداء مع الولاياتالمتحدة. وقد دعت الولاياتالمتحدة دولا أخري لمشاركتها في ذلك السعي, وهناك من تهرب منها لعدم قانونية هذا النشاط الخاص وغير المعترف به من الأممالمتحدة وهناك من انضم لها وتعاون معها. كما دفعت الإدارة الأمريكية حلف الناتو إلي تبني مهام مماثلة لاعتراض سفن مشكوك في حملها لمواد خطيرة في المتوسط, وأطلق الناتو علي مثل هذه الأنشطة' عملية السعي النشط'. ولتأكيد تفوقها العسكري علي كل دول العالم, والرغبة في استمرار هذا التفوق, بدأت الولاياتالمتحدة منذ بداية وصول الإدارة الحالية إلي البيت الأبيض في النظر إلي الفضاء الخارجي كمسرح للقوة العسكرية يمكن من خلاله السيطرة عليه إدارة عمليات مباشرة ضد أهداف معينة علي الأرض. وبرغم وجود قرار من الأممالمتحدة يمنع نشر أسلحة في الفضاء فإن الولاياتالمتحدة سعت إلي تخطي هذا القرار واعتباره غير متفق مع تطورات العصر. وكانت الولاياتالمتحدة قد طورت في إطار مبادرة الرئيس ريجان للدفاع الاستراتيجي عددا من الأفكار والنماذج الأولية لأسلحة يمكن نشرها في الفضاء وتقوم علي استخدام أشعة الليزر والذخيرة بالغة السرعة والدقة. ويعتبر غزو الولاياتالمتحدة للعراق وسط اعتراض عالمي واسع حتي من بعض حلفائها دليلا علي رسوخ الفكر الأحادي في الاستراتيجية الأمريكية. فقد كانت هناك قناعة أمريكية عميقة بأن الآخرين علي خطأ, وأن العالم لن يتغير إلي الأفضل دون ذلك, وأنها قادرة في كل الأحوال علي الذهاب إلي الحرب بمفردها حتي دون بريطانيا وتحقيق النصر فيها, وبالفعل انتهت من إسقاط صدام حسين في ثلاثة أسابيع, لكنها الآن وبعد أربع سنوات من الحرب المستمرة فشلت في تحقيق نصر حاسم علي الإرهاب والفوضي هناك. والنتيجة نفسها تقريبا نراها علي جبهتها الأخري في أفغانستان. وبدأت هذه الصورة المتهاوية تنال بشكل مباشر من منزلة الولاياتالمتحدة وقدرتها علي طرح مفاهيم استراتيجية حاكمة للتعامل مع التحديات العالمية. وسوف يفتح ذلك الطريق أمام الآخرين داخل أمريكا وخارجها لطرح فكر مغاير, وأيضا إنتاج ردود فعل غير متوقعة ومفاجئة للمخطط الأمريكي. وأول ردود الفعل وأكثرها جرأة كان احتجاج روسيا علي خطط أمريكا لنشر أجزاء من نظام دفاعها الصاروخي في بولندا وتشيكيا وتهديدها بالانسحاب من معاهدة الأسلحة التقليدية في أوروبا مما يعني إطلاق سباق التسلح في أوروبا والعودة إلي أجواء الحرب الباردة. وقد حاولت روسيا وضع الإدارة الأمريكية في زاوية ضيقة عندما عرضت عليها المشاركة في النظام الدفاعي برادار عملاق روسي موجود علي أرض أذربيجان في مقابل الامتناع عن نشر معدات مماثلة في بولندا وتشيكيا; وكان ذلك يعني بالنسبة للرئيس بوش الانزلاق مرة أخري إلي التعامل مع روسيا رأسا برأس وهو ما كانت الإدارة الأمريكية ترفضه باستمرار. ولم تتردد روسيا في إجراء تجربة لصاروخ حديث عابر للقارات متعدد الرءوس طور أساسا لاختراق النظم الدفاعية المضادة للصواريخ. ومن المتوقع أن تحذو إيران حذو روسيا, وهو ما بدأته من قبل بصورة بدائية, لكن تطور الأمور ربما يقود في المستقبل إلي سباق تكنولوجي بين الصواريخ الدفاعية والهجومية. والصين أيضا وبهدوء قامت بتطوير صاروخ مضاد للأقمار الصناعية وجربته بنجاح. وإذا انتشرت هذه التكنولوجيا فسوف يصبح النظام الأمريكي المضاد للصواريخ في مهب الريح لأنه يعتمد في عمله وفي اكتشاف الصواريخ المهاجمة علي الأقمار الصناعية, كما أن القيادة والسيطرة لأية منظومة عسكرية تعتمد في عملها علي الأقمار الصناعية التي تدور حول الأرض بلا حماية. وقد احتجت الولاياتالمتحدة علي التجربة الصينية, لكنها لم تلتفت إلي حقيقة أن إصرارها علي تأكيد تفردها بقيادة العالم بعيدا عن الأممالمتحدة, وعن الوكالات الدولية, وعن المعاهدات الثنائية والجماعية الراسخة, سوف يطلق العنان للجميع لامتلاك أدوات مضادة لعناصر التفوق الأمريكي, خاصة بعد خفوت قدرة هذا التفوق علي الردع والعقاب. عن جريدة الاهرام المصرية 9/8/2007