الجزائر بحكم موقعها الجغرافي،ومكانتها الاقتصادية، ورصيدها التاريخي،تعد نظريا الأكثر أهلية في الوطن العربي للتفتح ومسايرة التطور المعرفي الحاصل في المجتمعات الغربية ، ما يجعلها عضو فعال في إنجار مشروع بناء مجتمع عربي معرفي حديث مبني على مبدأ الحرية في إطار الأصالة والتفتح،لكن الواقع يظهر مدى التباين في الإطار العملي،ويبعث على الخوف من ضياع جهود العمل والعاملين منذ استعادة السيادة الوطنية، بتأثير عاملين آثار الاستعمار الفرنسي المحمول على الأعوان المحتفظ بهم في الإدارة الجزائرية إبان استقلال البلاد عن فرنسا،والثانية همجية التحول الذي أحدثته انطلاقة خريف عام 1988م، والتي انصرف بفعلها الجميع إلى التركيز على رغبة الوصول إلى السلطة من غير النظر في الأساليب والأخلاقيات الحضارية للأمة.
بالإضافة إلى تجاهل فترة ما قبل اندلاع ثورة نوفمبر 1954م،التي شكلت الرافد الرئيسي لإرساء دعائم النهوض الفكري والثقافي المرتبط أساسًا بوعي الانتماء العربي الإسلامي بأصول أمازيغية، وشد العزيمة الوطنية،الرافد الذي استفاض من معين الحركة الوطنية،:جمعية العلماء المسلمين الجزائريين،واستدراك الزعيم السياسي ميصالي الحاج الذي طور أفكاره من اشتراكية الرؤى إلى الاتجاه القومي العربي الإسلامي، مباشرة بعد لقائه بشكيب أرسلان في بيروت،يضاف الى ذلك ما فرضته الذهنية الأحادية من تعتيم بعد الاستقلال والى غاية عام 1989م.
لا يختلف اثنان في أن الأوضاع التي مرت بها الجزائر كانت صعبة لكن ينبغي الإقرار بأن احترام التنوع الثقافي وفق ما نصت عليه منظمة اليونسكو،بشأن تنوع التعابير الثقافية والفنية،والتراث اللامادي،والانفتاح على الثقافات المختلفة وفق المتطلبات هي عوامل مهمة للنهوض وصياغة مجتمع المعرفة أمر اهمل ايما اهمال،والركون إلى الانحراف والوقوف على هامش المقومات الأساسية لشخصيتنا لم يشكل عامل تثبيط وعرقلة الإبداع فحسب،بل جسد تيارا حائلا للتطور الفكري والازدهار الثقافي المعرفي.
هذه العوامل مجتمعة جعلت الجزائر تعيش إشكالية ثقافية وفكرية تتجسد في الاختلاف الحاصل بين تيارين" عربي إسلامي" من جهة، وتيار "فرانكفوفيلي،نهل من تراث الثقافة الاستعمارية معتبرا اللغة كغنيمة حرب مع شعوره أفرادها بالتحتية وإقرارهم بالتفوق الفرنسي".
منطلقات تلك الإشكالية غذاها صراع دار غداة الاستقلال في معركة ثقافية شهدتها الأوساط الأكاديمية على الخصوص بحماية من الإدارة التي كانت نواتها الأولى فرنسية المبدأ والفكر كما أسلفنا،وهو ما كشف عن النية المبيتة لاستئصال وتقويس منحنى التعريب بالإجهاز على اللغة العربية،لمحاصرة القيم الإسلامية وفد تكون هي الغاية من إسقاط الصفة الإسلامية على التنظيم الطلابي آنذاك.
وقد كان ذلك إيذانًا ببداية سيطرة شبه كلية للحرف الفرنسي داخل أجهزة الدولة ، وما أعقب ذلك من صراعات مريرة بين النخب المعربة ذات التوجه الوطني وبين النخب لا أقول الفرنسية اللسان وإنما الفرنسية الفكر التي تقف على طرف نقيض وتخشى أن يفقدها التعريب تلك الامتيازات التي حصلت عليها في عهد الاحتلال "1830-1962".
هذا الوضع اللا مبرر العوامل يحيلنا إلى مستوى أكثر عمقا بحكم ارتباطه بالتركيبة الاجتماعية والتاريخية للمجتمع، سير السياسة الثقافية،وسنرى بالعين المجردة دون عدسات ولا المجهر الكتروني مدى التدني الثقافي الموجود في عقولنا و مفاهيمنا ومبادئنا كشعب يفترض أنه ارتقى لمراتب عالية بالمقارنة مع إمكاناته المادية والبشرية و ماضيه التاريخي العريق بدءا بالقائمين عليها فهم لا يفهمون الشعر ولا يستطيعون التعامل مع الحاسوب والمعلوماتية،لا يملكون شيئا يخدمون به الثقافة،لا يفرقون بين القبول والقبول-فتح القاف وضمها- ولا يعرفون العدد والحساب ولا يفقهون العادات والمعتقدات ، لكنهم يديرون السياسة الثقافية للأسف،بتوجيهات إدارية جافة.
مع العلم أن عمليات التحول الديمقراطي ومراحلها الانتقالية تحمل أحياناً مخاطر في البلدان ذات المجتمعات كمجتمعنا ومن تلك المخاطر الانقسامات الطائفية والنزاعات المختلفة،وضعف الدولة يمكن أن يؤدي إلى العشائرية والطبقية والدينية،والتواكل بدل التوكل في العملية الإنتاجية، وشيوع هذه الأوضاع يحد من التطور الديمقراطي نفسه لأنها ترتبط بثقافة غير ديمقراطية،تقوم على التعصب وليس على التسامح ، على الانغلاق لا على الانفتاح، والجمود بدلاً من المرونة،فغياب السياسة الثقافية يثمر تدهور الثقافة السياسية ويسبب الجمود الفكري المعرفي، ومن نتائج هذا التدهور إغفال حماية الآثار وتدهور حال تحفه ومتاحفه.
إن السياسة الثقافية الرسمية لا تقيم توازنات انتقائية بين هذه الفوضى وبين الحضارات الأخرى،بل إنها عامل تساوق مع هيمنة الحضارة الغربية على المشهد الوطني العام وحتى مع شعارات جاهزة كالحداثة والعصرنة والعولمة، وهي شعارات تتعدد دلالاتها على صعيد السياسة الثقافية الرسمية بل وتلعب دورا في العلاقة ما بين التوجهين الأساسيين فيها،العلماني والتوجه التراثي الحضاري، البعض يرجع بطء التطور الديمقراطي إلى قوة الدولة أوقل تعسفها إن شئت، و الحقيقة أن ألسبب هي تعقيدات هذا التطور التي ترجع لأسباب متعددة أولها ضعف الثقافة الديمقراطية في المجتمع عموماً.
وقد نرى ضعف الممارسة الديمقراطية داخل الأحزاب ،السياسية ومنظمات المجتمع المدني نفسه، وللأسف نجد تصورات هذه الطبقة لم تتبلور طوال ما يسمى بالتحول الديمقراطي،وبقيت دائما تشكيلات اجتماعية بتصورات تمليها المصالح المباشرة تستبدل ثوبها كل مرة لتكون فيما بينها تحالفا يوهمك بأنها طبقة بينما هي في الحقيقة لا تتعدى كونها شكلا من التشكيلات العصابية التي تدير علاقات الاستغلال والتبعية معا.
وتغيب في الصورة الثقافية،فكل يخشى احتكار الآخر للسلطة إذا وصل أليها وكفا،ولا يهم نمط ذلك الإطار الذي يريد شغله،وهو لا يدري أن الديمقراطية التي يركب موجها ليست مجرد مؤسسات سياسية أو انتخابات أو تعددية حزبية،بل هي أيضاً تحولات عميقة في بنية المجتمع وفي الثقافة السياسية السائدة وبالتالي فالديمقراطية هي عملية بناء وتأسيس تبدأ بالإنسان أولاً ،وخدمة معتقده ومصالحه ثانيا.
هذه الأسباب جميعها ساهمت في تراجع الكم المعرفي بالنظر إلى التطور السكاني الهائل ،والتكاليف المادية والبشرية الباهضةالتي تكبدها الشعب الجزائري. إن حال هذه الوضعية لا يبشر إلا بمزيد من تعقيدها،وعلى المثقفين الوطنيين التجلد واستنباط خبايا الماضي لاكتشاف دواتهم،فمن الماضي نتخذ شموعا لإنارة الحاضر وإضاءة المستقبل .