أحمد عبد الرحمن العرفج من يقرأ سيرة المصطفى -صلّى الله عليه وبارك- يُذهل، بل يُدهش من شدة زهده، رغم توافر أسباب المُلك ورغد العيش..?ترك الدنيا وهجرها لأن ما عند الله خير وأبقى، ولم يقل ما يقوله علماء عصرنا من أبيات شعر تؤكد قائلة:?مَا أَحْسَنَ الدِّينَ وَالدُّنْيَا إِذَا اجْتَمَعَا?وَأَقْبَحَ الكُفْرَ وَالإِمْلاَقَ بِالرَّجُلِ!?لم يقل -صلّى الله عليه وبارك- ذلك، بل قال للدنيا إني فيك من الزاهدين! وحتى لا يكون خبز الكلام حافياً بلا مرقة الشواهد، تذكر كتب السيرة هذه القصة: «دخل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على الرسول صلّى الله عليه وسلّم يوماً فرآه على حصير قد أثّر في جنبه، ورفع رأسه في البيت فلم يجد إلا إهاباً معلقاً (الإهاب كيس من الجلس) وقبضة من شعير، وحصيراً تكاد تَبلى، فبكى عمر، فقال له الرسول: .ما يُبكيك يا عمر..قال عمر: يا نبي الله ومالي لا أبكي، وهذا الحصير قد أثّر في جنبك، وهذه خزائنك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار، وأنت نبي الله وصفوته. فقال عليه الصلاة والسلام: أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الخَطَّاب..أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا». رواه البخاري.?أكثر من ذلك: «دخل عليه -عليه الصلاة والسلام- عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- مرة فرآه على ذلك الحال، فقال له:? يا رسول الله ألا آذنتنا [أي أعلمتنا] حتى نبسط لك على الحصير شيئاً؟ ?فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَالِي وَلِلدُّنْيَا؟ إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَرَاكِبٍ ظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا»! انظروا إلى «حقيقة الزهد» و «الزهد في الحقيقة»، تأملوا الصدق في «شراء الآخرة» و «بيع الدنيا».. لاحظوا «السيرة العطرة النضرة».?كان بإمكان الرسول -صلّى الله عليه وبارك- وهو من أُعطي جوامع الكلم أن يتمتع بالدنيا -كما يفعل بعض علماء هذا الزمان- وإذا سأله سائل قال له: «وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ»، أو «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ، أو «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ»، أو أي عبارة من تلك العبارات التي يحفظها القوم من «المتمرّغين في الدنيا وزينتها» عن ظهر قلب! لم يقل النبيّ «الزاهد» «الصادق» -صلّى الله عليه وبارك- كل ذلك، بل قال وقوله الحق: «إِنَّمَا مثلي ومثل الدنيا كراكب ظلَّ تحت شجرة ثم راح وتركها»..?اللهم اجعلنا ممن يرى الدنيا كمن استظلّ تحت ظل شجرة ثم تركها وراحْ. عن صحيفة المدينة السعودية 3/2/2008