تشكّل وثيقة "حزب الله" التى قرأها أمينه العام السيد حسن نصر الله طبعة جديدة منقحة ومعدّلة من "الرسالة المفتوحة" التى شكلّت وثيقته الأولى عندما أعلنت عام 1985، أى بعد ثلاثة أعوام على إنشائه. بعد 24 عاماً على الوثيقة الأولى، التى أبرزت فى حينه الجوانب العقائدية أو الايديولوجية والفكرية وقدمتها أساساً للمشروع السياسى والنضالي، وبعد شريط أو بالأحرى تاريخ مفعم بالأحداث والتطورات المحزنة أحياناً والمفرحة أحياناً أخرى، وخصوصاً فى مجال تحقيق انتصارات على العدو الاسرائيلي، فى جو من القحط أو الجوع العربى الى الانتصار، كان من الضرورى ان يقدّم "حزب الله" وثيقة جديدة، بدا فيها عموماً أن السياسى تقدم على الايديولوجى الفكري، ولهذا غلبت على القراءات السياسية للوثيقة استنتاجات تقول إن تغييراً كبيراً صريحاً وواضحاً قد طرأ على خطاب "حزب الله" وعلى أدبياته ومصطلحاته وفهمه للبنان ولموقعه فيه. وبعد 24 عاماً على الوثيقة الاولى التى أعلن فيها الحزب انه لا ينتمى الى الدولة بل يشكل جزءاً من ثورة لبناء دولة اسلامية، يبدو أن التجارب والوقائع والخاصيات اللبنانية اثبتت ان من الضرورى تدوير بعض الزوايا للقول مثلاً إن "لبنان هو وطننا ووطن الآباء والاجداد كما هو وطن الابناء والاحفاد (...) الوطن الذى نريده لكل اللبنانيين على حد سواء واحداً وموحداً". لكن هذا الاعلان، رغم أهميته، ليس جديداً، فقد سبق للسيد نصرالله ان أعلن تكراراً فى الماضى ان لبنان ليس المكان المناسب لقيام دولة إسلامية. إلا ان الوثيقة مثل الاعلانات السابقة لا تزيل الالتباس حول هذه المسألة الدقيقة، وخصوصاً عندما يؤكد نصرالله ان "موقفنا من ولاية الفقيه فكرى وعقائدى ودينى وليس موقفاً سياسياً خاضعاً للمراجعة". صحيح أن الأمين العام لا يجد تناقضاً بين انخراط الحزب فى الحياة السياسية والمشاركة فى ادارة الدولة، وبين ايمانه والتزامه ولاية الفقيه، لكن هذا يرسم بالضرورة معادلة الثابت والمتغير أو المتحول. فاذا كانت الايديولوجية الفكرية لا تخضع للمراجعة طبعاً، بينما السياسة تقبل المراجعة والتغيير، فإن ذلك قد يساعد البعض فى لبنان على التساؤل: كيف يمكن بالتالى اقامة التوازن الدقيق والصعب، وسط الظروف الراهنة، بين الانتماء الى لبنان كوطن والانتماء الى ايران كمرجعية فكرية وايديولوجية؟ مثل هذا السؤال لا يجد بالتأكيد جواباً واضحاً ومكتملاً ونهائياً، ولهذا يصبح الحوار قدراً يومياً وضرورياً لا مفرّ منه بين الحزب وكل اللبنانيين "المتساوين فى وطن واحد موحّد"، كما قال نصرالله، وهذا ما يجرّنا الى سؤال آخر: هل الحوار المستجد بين اللبنانيين الآن سيفتح البوابات على حوار صادق فى العمق مع "حزب الله" فى أمور كثيرة تبدأ بالأيديولوجى وانعكاساته السياسية الحتمية وتنتهى بالتعريفات الديموقراطية ومفهومها التوافقي، مروراً بموضوع السلاح الذى أخذ فى الوثيقة شكل ثنائية ثابتة تزاوج بين "المقاومة الشعبية" و"الجيش القوي"، فى حين يقول نصرالله إن قرار السلم والحرب للدولة، وهو العالم أن الحروب مع العدو الاسرائيلى بالتحديد قد لا تحدث بقرارات؟! فى سياق المقارنة الضرورية بين وثيقة 1985 والوثيقة الجديدة، بحثاً عن الزوايا الحادة التى تم تدويرها، من الضرورى التوقف ملياً والتأمل فى العمق فى التراتبية التى أوردها نصرالله، عندما قال إن "المقاومة طورت مشروعها من قوة تحرير الى قوة توازن ومواجهة، ثم الى قوة ردع ودفاع". واذا كان البعض قد يسارع الآن الى التساؤل: ردع الى متى ودفاع الى متى فى وجود الدولة وقواها الأمنية، فإن من الضرورى الانتباه الى ان هذا التدرّج فى التراتبية يشكل نزولاً نسبياً من سقوف عالية جداً، لكنه بالتأكيد نزول متمهّل على السلم وليس هبوطاً سريعاً فى المصاعد. وهذا أمر مفهوم، فنحن بالتالى أمام حزب كبير ذى دينامية وهياكل وتنظيمات، ومن الطبيعى جداً ان يكون انتقاله من التحرير الى المواجهة قد اقتضى 27 عاماً من النضال، وان انتقاله من المواجهة الى الردع يقتضى احترام عامل الوقت أيضاً، ومن يريد استعجال الوقت لجعل الردع مسؤولية الدولة وحدها ليس عليه إلاّ استعجال قيام الدولة القوية والقادرة. ولكن كيف، ومن أين، وسط المعادلة الراهنة؟! عندما انبرى زميلنا الصديق طلال سلمان بعد تلاوة الوثيقة وقال لنصرالله: "أهلاً وسهلاً بك سماحة السيد فى النادى السياسى اللبناني"، كان يعرف ضمناً، كما يعرف سماحته بالتأكيد، ان "حزب الله" دخل منذ زمن بعيد الردهة السياسية اللبنانية، عام 1992 نيابياً وعام 2005 وزارياً. لكن المسألة ليست فى النيابة ولا فى الوزارة، فالذى يوجه رياح المعارضة داخل النادى السياسى هو "حزب الله"، والذى يدير اللعبة السياسية هو ايضاً، ويكفى ان يتأمل المرء فى التطورات التى عرفها الوضع السياسى اللبنانى منذ عام 2005 على الأقل، الى تشكيل الحكومة الجديدة، لكى يعرف تماماً من يتولّى ادارة ذلك النادي! ولا ندرى إذا كان المقصود بهذا الترحيب البارع التخوف من أن "حزب الله" قد يغوص فى مستنقع الدولة وناديها السياسى وهو ما لا يطيب للبعض، او إذا كان المطلوب إلباس الدولة عباءة الحزب. لكن جعل الديموقراطية التوافقية من الثوابت كما أكد نصرالله، جازماً، فى انتظار الغاء الطائفية السياسية ولو بعد دهر من الآن، يعنى ان لبنان سيظل يراوح فى مكانه وسط دائرة لا هى الدولة بمفهومها السياسى المعروف ولا هى "حزب الله" بمفهومه الايديولوجى المعروف.