لم يكن ظهور المد السياسي لجماعة الإخوان المسلمين وليد الصدفة أو من باب تسيد التيارات الدينية المشهد السياسي والحراك الإجتماعي بعد ثورة يناير ، بل كان نتيجة تاريخ طويل من الكفاح وحالات الشد والجذب والمد والجذر بينها وبين الأنظمة السياسية الحاكمة . وجماعة الإخوان المسلمين تشكل حالة صعبة المراس في هذا المشهد السياسي بصورتيه الزمنية والتاريخية ، فبينما حاولت الجهات الأمنية القمعية في الماضي تهميش دور الجماعة رغم ظهورها الفعلي من خلال المنتمين لها دون مقر أو إعلان أو حتى دعاية علانية ، كانت الجماعة نفسها تسعى إلى تكريس وتأسيس شرعية شعبية لها عن طرق فكر مخطط وتنفيذ دقيق لإستراتيجيات محددة لا تقبل العشوائية أو المغالاة . ولا أكاد أظن أنني قادر على حصر المقالات التي كتبتها في عهد النظام السياسي البائد أو ما بعد الثورة عن جماعة الإخوان المسلمين ، وتباينت موضوعات هذه المقالات ما بين رصد واقعهم السياسي الراهن ، أو تأويل التوجهات الإجتماعية والسياسية لديهم ، وربما في بعض الأحايين الحديث عن الحياة الإخوانية نفسها أقصد الحراك الداخلي للجماعة . وأظن أنني قد إنتقدت كثيراً بعض المشاهد السياسية للجماعة ،ولا أنكر أن الجماعة تتمتع بفكر مخطط ومنظم ، وبرؤية لا يجد أفرادها مناصاً من أن تتحقق بشتى الصور وفي أحلك الظروف وأيسرها أيضاً ، وهو ما يدفعها دفعاً لإستقطاب أعداد هائلة من المريدين والمؤيدين لها . ولولا لأن لبعض قيادات الجماعة تصريحات عجيبة لإستطاعت جماعة الإخوان المسلمين أن تضم كافة التيارات السياسية المتباينة في مصر ، فهي تتمتع بإرث تاريخي غير موجود لأي فصيل سياسي حاضر اللهم سوى حزب الوفد الذي بدا مترنحاً في الإنتخابات البرلمانية الأخيرة بسبب حرصها على إستقطاب النخبة دون العامة . فإسم الإمام الشهيد حسن البنا بمواقفه التاريخية الماتعة والرائعة وسجله الكفاحي المشرف يعد بوابة وأرضاً خصبة لتواجد الملايين عليها بفضل ما تمتع به من سمعة طيبة وتاريخ حافل . وأجد أن فضيلة المرشد العام للجماعة الحالي الدكتور محمد بديع يحظى بقبول مثير لدى كافة التيارات والفصائل السياسية ، ولابد أن نعمة القبول هذه هي فضل من الله سبحانه وتعالى أولاً ، ثم عمل مستمر وإخلاص مستدام . وليست هذه السطور مغازلة لجماعة الإخوان ، بقدر ما هي رصد لحالة الخطاب السياسي الرشيق لمرشدها العام ، ولكن لأن هذا الرجل بدا مختلفاً في خطابه المنطوق والمقروء أيضاً عبر كتاباته الرسائلية عن بقية الخطابات الدعوية والسياسية المنتشرة بطول وعرض مصر الآن . وخطاب هذا الرجل بديع كإسمه فهو يتحدث هذه الأحايين عن نهضة البلاد التي بلا شك تهمه كما تهمنا نحن وصغارنا أيضاً ، وكم هو رشيق أن يبدأ حديثه عن نهضة الأمم عن طريق ربط العلم بالأخلاق ، رغم أن بعض مريديه يمقتون لفظة العلم هذه وليتهم ينصتوا إلى حديثه الناهض لبناء هذا الوطن ، وقد وضع شرطاً لهذا العلم بأن يكون أساسه الأخلاق وهو شرط ضروري فعلاً لكي نستشرف مستقبلاً لوطن لا يزال البعض يستميت في إغتياله صباح مساء . وليت أصحاب النزعات الدينية المتشددة يطالعون ما جاء بالنص في رسالة لفضيلة الإمام المرشد الدكتور محمد بديع والتي يقول فيها : " فالإنسان هو أعظم الثروات، إن توفر له المنهج التعليمي القائم على إستيعاب المعطيات المعرفية الجديدة، والتطورات العلمية الحديثة في كل مجالات العلوم، وبذلك تستفيد الأوطان من عقول أبنائها بدلاً من أن تهاجر بعيداً عن خدمة أمتها" ، وهذا الحديث هو بحق خطاب رجل يطمح في صلاح بلاده بعيداً عما يردده بعض أنصار الجماعة نفسها والذين أغرقوا أنفسهم في معارك سياسية وفي عقد صفقات حول السلطة . وأكاد أتفق مع فضيلة المرشد في تحديده للموانع التي تعيق تقدم هذا الوطن وتحد من نموه وإزدهاره ، ومنها ما ذكره فضيلته مثل التقليد والتبعية والجهل، ومنها الداخلية كالإستبداد والفوضى واليأس، ولكنها جميعاً تختفي كما أشار بقوة الهمة، والتفاؤل، والأمل، والتطلع إلى الإجتهاد في مشروع النهضة، وإظهار قوة الأمة الأخلاقية في إستئناف الحياة. وفي الحقيقة لم أكن أتصور يوما أن الخطاب الديني والسياسي المعاصر لجماعة الإخوان المسلمين يتضمن عبارات يطلقها دائما الليبراليون والنهضويون الجدد مثل كلمات النهضة ، والمعطيات المعرفية ، وكم هو جميل حقاً أن تصدر مثل هذه الكلمات من جانب السلطة العليا بالجماعة والتي تشير إلى وجود شراكة حقيقية بين فصائل مصر المتباينة أيديولوجياً ولكنها متفقة في الهدف والرؤية الاستشرافية لهذا الوطن . ولعل سر الإعجاب بالخطاب السياسي لفضيلة المرشد والمختلف نوعياً عن بقية أعضاء جماعته أنه يحذر من خروج الثورة عن مسارها الشرعي والطبيعي ، ويبدو أن قلة ظهوره الإعلامي قد حرمه من إستقطاب عقول كثيرة ، وحرم الناس أيضاً من التعرف على فكر مستنير ، فهو يشير إلى وجود معارك جانبية تأخذ بدفة الثورة بعيداً ،وهو يحذر بشدة مغبة الاستدراج نحو هذه المتاهات الفئوية وننسى مطالب الثورة الحقيقية ، وهذا الإستدراج سيعطي فرصة ذهبية لأعدائنا المتربصين بهذا الوطن الغالي . وأختتم مقالي هذا بالثناء على المرشد العام الدكتور محمد بديع الذي بلا شك يسعى لنهضة بلاده إلا أن تصريحات قيادييه في وادٍ آخر ، فهو يعطي روشتة سريعة لنهضة هذه الأمة في كلمة واحدة وهي الوحدة ، ولم يستثن أحداً منها ، بقوله " حاكماً ومحكوماً، حكومة وشعباً، دولة وعاملين، ثقافة وإعلاماً، جيشاً وشرطة، أسرة ومجتمعاً، مسلمين ومسيحيين " . ستعيش مصر بأهلها وبوحدتها والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل .