مازال ملف أموال مصر المنهوبة يحاول الخروج للنور وسط كل الأحداث التى تدور فى مصر ،ومازالت التحركات لإستراد هذه الأموال شعبية ولم ترتقى الى مستوى حكومى ، من جانبها طالبت اللجنة القانونية لاسترداد أموال مصر، برئاسة الدكتور حسام عيسى، مجلس الشعب، بإصدار تشريع عاجل بشأن استرداد الأموال ينص على تكوين لجنة ذات اختصاصات حقيقية، تمسك بملف الأموال المهربة، تتكون من مختصين ودبلوماسيين وقضاة تقوم بجمع الأدلة، ومخاطبة الدول والمؤسسات الأجنبية لتتبع الأموال المصرية المهربة وتجميدها، ثم اتخاذ إجراءات استردادها وأكد الدكتور محمد محسوب، أمين اللجنة، خلال مؤتمر صحفى بميدان التحرير ظهر اليوم الأربعاء، ضرورة دعوة البرلمان على وجه السرعة لممثلى الجهاز المصرفى، وعلى رأسهم فاروق العقدة محافظ البنك المركزى، لتقديم بيان واضح بشأن أى حسابات سرية سيطر عليها النظام السابق، والكشف عن طرق إدارتها بما فيها ما خرج من الحافظة المالية المصرية من أموال خلال العقد السابق على الأقل، ولديهم من معلومات وبيانات، وطرق تهريب الأموال وحجمها وقال "محسوب" إن الفترة الانتقالية الماضية لم تشهد أى إجراء حقيقى فى ملف نهب ثروات مصر، وما تم الإعلان عنه لا يعدو كونه إبراء ذمة أو إضاعة للقضية، أو مساهمة فى منح الفاسدين فرصاً أخرى لإخفاء المال من جانبه أشار د. مصطفى سالم الخبير الاقتصادى والقانونى الى سؤال فى منتهى الاهمية وهو: هل ستنجح الحكومة فى استرداد تلك الأموال وبصفة خاصة فى ظل النظم القانونية المعقدة فى الغرب حيث توجد معظم هذه الأموال؟ غالب الظن، وهذا يعلمه أهل القانون الذين لهم دراية بهذه الأمور، أن النجاح فى هذا المسعى سيكون ضئيلا، وغير بعيد عن الذاكرة المصرية أننا خسرنا فى التحكيم الدولى 78 قضية من أصل 80 قضية كانت حكومة مصر طرفا فيها! وآخرها قضية وجيه سياج، ولا داعى للخوض فى أسباب هذه الخسائر حتى لا ننكأ جراحا مؤلمة ليس هذا مكانها ولكن أوان ملفاتها قد اقترب ومن ناحية أخري، فالتاريخ القريب يذكر أن المحاولة الوحيدة التى نجحت فيها الحكومة فى استرداد أموال مهربة من أحد الفاسدين كانت بالتفاوض والاتفاق مع الشخص الفاسد على استرجاع هذه الأموال بنفسه فى مقابل حفظ الأوراق وإغلاق الملف نهائيا من قبل السلطات. وتم استرداد المال فعلا. ولكن لأن نصوص القوانين العقابية فى مصر لا تسمح للسلطات القضائية بعدم ملاحقة الجانى حتى لو ردت الأموال، فقد أدين هذا الفاسد بالأشغال الشاقة. وهكذا ودون قصد تعلم الفاسدون الدرس أنه حتى لو أرجعوا ما نهبوا فسوف يلاقون ذات المصير، فالأفضل له إذن أن يسجن دون رد الأموال طالما أن ذلك لن يشفع له فى اسقاط العقوبة أو تخفيفهاوالواقع أن نظام القانون الانجلو أمريكى يتضمن نصوصا تشريعية تبيح للنائب العام أن يتفاوض مع المتهم ويوقع معه اتفاقا يعترف فيه المتهم بارتكاب الجريمة ويرد ما سرق أو نهب فى مقابل تسوية الأمر خارج المحكمة ويكون ذلك بالاتفاق مع المتهم على عقوبة مخففة أو إعفائه من العقاب أو اتخاذ تدابير جنائية ضده ليس من ضمنها الحبس وعلى سبيل المثال فإن لائحة النيابة العامة التى صدرت فى بريطانيا فى فبراير 2010، تنص فى أكثر من مادة على أن النيابة لا تصدر قرارا بالملاحقة القضائية إلا إذا كان ذلك فى مصلحة المجتمع وأن لدى النائب العام الصلاحيات القانونية إزاء أى جريمة فى أن يتصرف فيها بعيدا عن المحكمةوهذه الصلاحيات التى يملكها النائب العام فى تسوية بعض الجرائم بعيدا عن المحكمة ليست مطلقة بالطبع، وإنما لها ضوابط أولها أن يكون قرار عدم الملاحقة القضائية فى المصلحة العامة للمجتمع، ومنذ الخمسينيات تعهد النائب العام أمام مجلس العموم فى بريطانيا حينئذ بأنه لن تكون هناك ملاحقة قضائية للمتهم إلا إذا كان ذلك فى مصلحة المجتمع، ومن الضوابط أيضا أن ثمة جرائم معينة لا يجوز صدور قرار بعدم الملاحقة لمرتكبيها مثل جرائم الاعتداء على الأطفال أو الاغتصاب أو القتل العمد حيث يتعين عليه فيها أن يعرض الأمر على القضاء ومن ضمن الضوابط أيضا أن يكون للمجنى عليه رأى فى اتفاق التسوية الذى تتم بعيدا عن المحكمة. وهذا النظام مطبق أيضا فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، ونسبة كبيرة جدا من الجرائم التى تحدث يتم تسويتها خارج المحكمة بالاتفاق الذى يتم بين محامى المتهم والمدعى العام وفى ظل موافقة المجنى عليه أو أهله. ولاشك أن التشريعات والنصوص القانونية السارية فى مصر سوف تسمح بصدور أحكام جنائية رادعة تعاقب من نهبوا ثروات مصر والزامهم برد هذه الأموال، كما سيحكم عليهم بغرامات مالية تصل إلى ضعفها. ولكن هل تؤدى تلك الأحكام إلى رد الأموال فعلا وواقعا؟! أم أن تلك الأحكام الرادعة فى جانبها المالى ربما تكون حبرا على ورق أو تؤدى فى أحسن الأحوال إلى استعادة جزء ضئيل من الأموال المنهوبة؟ فى هذا الخصوص فإن ثمة ملاحظات يتعين الإشارة إليها: أولها أن الأمور جرت فى مصر على أن من نهب أموال الشعب يكون لديه ترتيبات مسبقة للإفلات بجريمته ومنها أن يمحو الأدلة التى تثبت أنه ارتكب الجريمة، وثانيها أن صور الفساد قد تعددت وأغلبها قائم على استغلال الثغرات فى القوانين واللوائح القائمة أوما يسمى بمخالفة القانون بالقانون وله صور متعددة فى المناقصات والمزايدات، ناهيك عمن يصرفون لأنفسهم مكافأت ورواتب بالملايين، أو يعينون مستشارين، أو خريجين جددا بمكافآت شهرية ضخمة تصل أحيانا إلى 300 ألف جنيه ويتم التمسك ابان التحقيق بقانونية تلك التصرفات، مع أن الأمر فى حقيقته ليس سوى تربح واستغلال نفوذ واضرار عمدى بالمال العام، أما عن الاختيار الأخير للفاسدين فهو أن يقضى مدة العقوبة والتى لن تزيد من الناحية العملية على خمس أو سبع سنوات ثم يخرج طليقا للاستمتاع بما نهبه. أحد المتهمين فى جريمة توظيف أموال، كان شريكه فى جمعها ابن وزير سابق، قال لضابط الأموال العامة الذى يحقق معه: إنه فى أسوأ الاحتمالات سوف يقضى مدة العقوبة ثم يخرج للاستمتاع بهذه الأموال المنهوبة بعد أن تكون قيمتها قد تضاعفت فى البنوك فى فترة سجنه، وأنه رتب أوراقه جيدا بوضع هذه الأموال باسماء آخرين لن تطولهم أى ملاحقة قضائية، وربما يقوم بعد خروجه بترضية بعض ضحاياه من الشرفاء فقط من عائد تلك الأموال. وإذا كان ذلك يحدث داخل مصر، فإن المؤكد أن الأمور خارج مصر ستكون أصعب ذلك اننا سوف نضطر للجوء إلى مكاتب المحاماة الدولية وندفع ملايين الدولارات كأتعاب لهم، وغالب الظن أن النتيجة ستكون سلبية، فشواهد الأمور تؤكد أن الأداء المصرى فى مثل هذه الأنواع من القضايا يفتقد الخبرة، والدليل أننا خسرنا عشرات القضايا أمام مركز واشنطن للتحكيم وتحكيم غرفة التجارة فى باريس، وتحديدا فقد خسرنا 78 قضية من 80 قضية تحكيم كانت الحكومة المصرية طرفا فيها. ولعل النموذج الصارخ هو قضية «وجيه سياج» التى خسرت فيها مصر مبلغ 30 مليون دولار كأتعاب للمحامين ومصاريف قضائية فضلا عما يقارب 700 مليون جنيه مصرى حكم بها كتعويض للمدعى وجيه سياج، وتم التعتيم الإعلامى على هذه الخسائر باعتبارها سرا من أسرارالدولة، ولعل الأوان قد يأتى قريبا لنكشف اسم الشخص الذى خسرت مصر من أجل عينيه ونفوذه مليار جنيه فى تلك القضية فإذا كان ما سبق فإننا نسأل عما إذا كان فى مصلحة المجتمع والشعب أن يلاحق هؤلاء المجرمين قضائيا أمام المحاكم الداخلية أو محاكم الدول الأجنبية التى هربت إليها هذه الأموال؟ أم الأفضل أن نتفاوض معهم وفقا لنظام مفاوضات الاعتراف حتى نتمكن من استرداد هذه الأموال؟ اعتقد أن مصلحة الدولة ومصلحة الشعب المجنى عليه أن يتم رد الأموال فى مقابل الإعفاء من العقوبة أو تخفيفها أو اتخاذ تدابير تنص عليها فى القانون بدلا من العقوبة لأن عمليات الملاحقة القضائية لا تؤدى إلى استرجاع شيء. والفقه التشريعى المصرى لديه تجربة تؤكد أن أموال البنوك المنهوبة من خلال القروض تم ردها من خلال نص تشريعى يعفى من يرد هذه الأموال من أى عقوبة عن الجرائم المرتبطة بالاستيلاء عليها. وقد تم الرد فعلا فيما عدا الذين تم سجنهم وقضوا عقوبتهم فلم يردوا شيئا. الأمر إذن يتطلب تعديلا تشريعيا لمواجهة الواقع وعمل التوازن المطلوب بين مصلحة الشعب المجنى عليه فى رد أمواله وبين مصلحة المجتمع فى معاقبة المفسدين، اللهم هل بلغت، اللهم فاشهد