اللافت للنظر أن هاجس البحث عن رئيس جديد لمصر بدأ أثناء وجود الرئيس المخلوع حسني مبارك في القصر الرئاسي بالعروبة، في الأيام الأولى لاندلاع ثورة الغضب التي تفجرت يوم 25 يناير، وكانت ما تزال دماء الشهداء تسيل على إسفلت ميادين التحرير، وهذا منطقي ومفهوم في إطار العلاقة الطويلة والمعقدة بين المواطن المصري والفرعون الذي يسكن المعبد أو القصر، كشكل من أشكال الاستقرار الذي ينشده وإن كلفه التضحية ببعض حريته. ففي هذا الوقت كان محمد البرادعي- كعادته- يقوم بجولة بين العواصم الأوروبية مدعوًا لإلقاء محاضرات، تلك الجولات التي أثرت كثيرًا على شعبيته لدى قطاعات واسعة من المثقفين والفاعلين على الساحة السياسية، فضلاً عن رجل الشارع العادي الذي كان ينتظر منه قيادة المظاهرات ضد النظام، وقتها أدلى البرادعي بحديث لمحطة تليفزيون أجنبية أعلن فيه استعداده لتولي الرئاسة في الفترة الانتقالية دون أن يعرض أحد عليه ذلك! وبعد أيام نزل عمرو موسى إلى الميدان الملاصق لمكتبه، وقال لمراسلي الأخبار- لأنه أكثر حنكة- إن بعض "شباب الثورة" طالبوه بالترشح وإنه لن يتخذ قرارًا إلا بعد دراسة الموقف، ثم توالت الأنباء عن ترشح شخصيات أخرى من كافة الاتجاهات، غير عشرات الطامحين إلى الشهرة. في الوقت ذاته ظهر شباب ما قبل الثلاثين عامًا على الفضائيات، كل منهم يسبق اسمه باسم "ائتلاف" ثوري ينتمي إليه، ويتحدث عن ذكريات الميدان، والبطولات الشخصية والعامة، وانتشرت كابات (جمع كاب) وتي شيرتات تحمل شعارات هذه الائتلافات، كما انتشرت عشرات الصفحات على (فيس بوك) تحمل اسمها، حتى إن متابعًا دءوبًا- مثلي- لم يكن يستطيع ملاحظة الفروق بينها، وما يزال، إن كانت ثمة فروق أصلاً في العقائد السياسية والأيديولوجية، اللهم إلا الفارق بين التيارات الدينية، إسلامية وقبطية، والأخرى الليبرالية على اختلاف توجهاتها. بدأ هؤلاء الشباب حديثًا مبكرًا عن تكوين أحزاب تأخذ اسمها من مفردات الثورة: "الميدان، التحرير، الشهداء، الشباب، العدل.. الخ" تستعد لخوض الانتخابات البرلمانية "المقبلة" ليحصدوا ثمار "ثورتهم"، بعضها تم إعلانه بالفعل حين تكدست "الكراتين" المتشابهة في الأسماء والشعارات أمام لجنة الأحزاب، والبعض الآخر لم يخرج من حيز الدعاية لشخص أو لمجموعة، وقد شكلت الأسماء المتعددة هذه صدمة لكثيرين- أنا أولهم- من الذين كانوا يحلمون بأن تفرز حالة الميدان حزبًا واحدًا، يستطيع أن يواجه القوى التقليدية في الواقع السياسي المصري، والتي تتكون من جناحين لا ثالث لهما: جناح المنتفعين "الفلول" الذين يهرولون وراء السلطة أينما حلَّت، ويقدمون لها خدماتهم وأموالهم مقابل امتيازات تسهل أعمالهم، من الاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي إلى منبر الوسط والحزب الوطني، وجناح الإسلام السياسي، الذي بدأ بجماعة الإخوان المسلمين وما تفرع عنها من جماعات أصولية وسلفية.. الخ. هذه "الحالة الانتخابية" التي بدأت واستعرت قبل أن يهدأ غبار الميدان، ساهمت بشكل كبير في تحجيم نتائج الثورة، وقدرتها على الانتقال بمصر إلى دولة ديمقراطية تحكمها مؤسسات فاعلة تأخذ شرعيتها من تنظيمها ودورها الذي تؤديه وتلبيتها المطالب التي قامت من أجلها، لا من رضاء الحاكم عنها، إذ إن التسابق المبكر لحصد الثمار صرف الانتباه عن الميدان، وعن التأكد من سير الأمور في الاتجاه الذي يحقق مطالب الثوار، فكان أن تُرِكَت الساحة فارغة للمجلس العسكري الذي يدين بالولاء للنظام القديم- بعد أن صفقوا له برعونة ورومانسية- ولمستشاريه الذين أتقنوا تعقيد المشهد بحرفية اعتادوا عليها، بحيث لا يستطيع أحد أن يغير شروطه إلا بخسائر جسيمة، كتلك التي تُدفع الآن، حيث اضطر الشباب إلى ترك دوائرهم الانتخابية(!)، والعودة إلى الميادين مرة أخرى، يدفعون ضريبة دم جديدة لإزاحة ساكن جديد للقصر، يجاهر بأنه- كسابقه- يأخذ شرعيته من رضاء الأغلبية الصامتة ويلوح بسلاح الاستفتاء!! "الحالة الانتخابية"، إذن، تسيطر على المشهد داخل وخارج الميادين: ففي الخارج نشاط ملحوظ يقوم به الفريق سامي عنان، رئيس أركان حرب القوات المسلحة والرجل الثاني في المجلس العسكري- ربما لأن المشير يتعالى!- حيث عقد اجتماعًا مع من يظنهم "قوى سياسية فاعلة" بهدف إيجاد مخرج من الأزمة، فهرول إليه الطامحون: الإخوان المسلمون وعمرو موسى وغيرهما، الذين يرون أن إجراء الانتخابات الآن ستحملهم إلى مقاعد السلطة، وإن التأخير ليوم واحد يؤثر على فرصهم، لذلك أكد المجلس العسكري على إقامة الانتخابات في موعدها- استجابة لتلك الضغوط- رغم المخاطر الجسيمة التي تلوح في الأفق، ولم يجد نفسه مضطرًا لتقديم تنازلات، كالاعتذار عن الأخطاء أو تعزية أهالي "الضحايا".. الخ، وإن فعل بعد رجاءات عديدة، وعبر مسئولين أقل أهمية من الرجلين الكبيرين، المشير وعنان! وفي داخل الميدان هناك متعجلون كثيرون، يتظاهرون لبعض الوقت ويلتقطون صورًا ويتحدثون للفضائيات، ثم يهرولون إلى دوائرهم لكسب ود الناخبين.. يقولون إن الانتخابات هي الطريق إلى الديمقراطية، دون نظر إلى أنها جزء من خطة المجلس ومستشاريه لتفريغ الثورة من محتواها عبر اقتراع معقد، يحمل المستأنسين إلى البرلمان، أولئك المنوط بهم انتخاب هيئة تأسيسية تضع الدستور الجديد، الذي يراد له أن يكون مؤدبًا، يحفظ للقوى القديمة هيمنتها على مصادر المال والسلع وتحريكهما، ولقادة الجيش ميزانيهم السرية وصفقات السلاح!