فى عهود بائدة كانت هناك فئات من المصريين وأكثرهم مرضى نفسيون، يمنحون أنفسهم حصانة وتمييزا دون باقى خلق الله، يستمدونها من سلطات وظيفية تتيح لهم إيقاع الأذى بالآخرين وإرهابهم. وكان العوام من الذين عششت بداخلهم طيور الخوف وأفرخت من كثرة ما عرفوا أو سمعوا عن أخبار السجون والمعتقلات وزوار الفجر، تسقط مقاومة الواحد منهم بمجرد أن يطلق الرجل الواصل أو صاحب اليد (الطايلة) صيحة التحذير الاستفهامية الشهيرة: (أنت عارف أنا مين؟) أو (أنت عارف بتكلم مين؟). ودارت الأيام دورتها وسقطت مراكز القوى الكبيرة والصغيرة، وتحرر الناس من الخوف واتجه مؤشر التمييز والفرز داخل المجتمع نحو الثروة، ليأتى كاتب سيناريو فيلم الليمبى الشهير ويضع على لسان بطله عبارة تلخص هذا التحول حين يقول: (الجنيه غلب الكارنيه). لكننا فى الحقيقة لا نستطيع أن نقبل عبارة الفيلسوف الليمبى على إطلاقها فنجزم أن كل الكارنيهات سقطت وانهارت أمام سطوة السيد الجنيه، فمازالت هناك (كارنيهات) وشارات أخرى يظن بعض حامليها أنها تتيح لهم الخروج على النظام العام أو مخالفة القوانين وتحدى السلطات. نعم هناك الآن فى المجتمع من يتصور هذا فى نفسه وإلا ما حدث مثل الذى حدث فى (دشنا) بقنا منتصف الأسبوع الماضى. والذى حدث وأفاضت بعض الصحف فى النشر عنه بدأت وقائعه منتصف الأسبوع المنقضى حين اشتبك ابن شقيقة نائب دشنا فى مجلس الشعب أثناء جلوسه على أحد المقاهى مع 3 من ضباط قوة تنفيذ الأحكام كانوا- فيما يبدو- يفتشون على رواد المقهى عندما طلبوا من ابن شقيقة النائب إبراز هويته (بطاقته) فرفض الأخير وانضم إليه عدد من رفاقه الجالسين معه على المقهى وحاولوا جميعهم إثارة باقى رواد المقهى ضد ضباط قوة الشرطة الذين نجحوا فى النهاية فى اصطحابهم إلى مركز الشرطة واحتجازهم. وباقى تفاصيل القصة تشير إلى أن النائب عندما علم باحتجاز ابن شقيقته ورفاقه جمع حوالى 200 من أقربائه وأعوانه وهاجموا مركز الشرطة فى محاولة لاستظهار القوة والقدرة وإطلاق سراح المحتجزين، وفى محاولتهم تلك أحدثوا تلفيات بالمركز وبسيارة أحد الضباط ناهيك عن التلفيات الأخرى المعنوية التى بالتأكيد أصابت ذراع السلطة التنفيذية وهيبتها، وأحدثت إزعاجاً استدعى الاستنفار الأمنى على أعلى المستويات لاحتواء الموقف وتهدئته، وتبعته إحالة أطراف المعركة إلى جهات التحقيق لكشف كل الملابسات المتعلقة بالواقعة. وبالتأكيد سوف تسفر تحقيقات النيابة عن تفاصيل أخرى او تجاوزات ربما وقعت فى البداية من طرفى النزاع (ابن شقيق النائب ورفاقه من جهة وضباط الشرطة من جهة أخرى) وأدت فى النهاية إلى حدوث ما لا يصح أن يحدث وخاصة أن فعل التحريض منسوب إلى نائب برلمانى ربما تصور أو توهم خطأ أن الحصانة التى يتمتع بها تتيح له أن يتجاوز إلى هذا الحد، وهو الذى لا يمثل نفسه فى هذه الحصانة وإنما يمثل من اختاروه نائباً عنهم. والواقعة السابقة إذا ما أضفناها إلى عدد آخر من الوقائع التى استغل فيها أعضاء برلمانيون الحصانة الممنوحة لهم فى ارتكاب تجاوزات أخلاقية أو جرائم جنائية ظناً منهم أنهم فوق القانون، فسوف نكتشف أن هناك ثقافة مجتمعية رتبت لحصانة عضو البرلمان أكثر مما تستحق، فأتاحت لبعضهم استغلالها استغلالا سيئا. والحكايات كثيرة عن سقوط بعض النواب فى خطيئة الحصانة السوبر التى تصنع المجرمين أو التى يسعى بعضهم إلى اكتسابها لتساعده فى ممارسة نشاط مؤثم. ولعل أشهر هذه الحكايات أو القضايا التى كانت الصحافة غالباً وراء تفجيرها والكشف عنها منذ عدة سنوات للرأى العام، قضية نواب الكيف الذين حاولوا استغلال الحصانة فى حماية نشاطهم المشبوه للاتجار فى المخدرات ونواب القروض ونواب البيزنس المشبوه الذين اشتهروا بنواب سميحة والنائب أو النائبين اللذين تورطا فى تزوير أوراق وعقود للاستيلاء على أملاك أثرية خاصة بالطائفة اليهودية فى مصر إلى آخره. وكل الذين تورطوا فى هذه الجرائم لم يقتنعوا عن عمد أن حصانة عضو البرلمان تتمثل فى عدم مساءلته جزائيا أو مدنيا على الآراء أو الوقائع التى يظهرها أو يوردها تحت قبة البرلمان، فهى حصانة سياسية استمدها من تمثيله للشعب أمام السلطة التنفيذية ليكون نائباً عنه فى الرقابة عليها وعلى أدائها، ومن يتم اختياره لمهمة مثل تلك فأولى به أن يكون أولاً رقيبا على نفسه فهو ليس فوق القانون أو المساءلة وأن يجمّل حصانته بعدم الخروج على النظام العام للدولة أو القانون.. وأرجو ألا يفهم كلامى السابق أننى ضد حصانة عضو البرلمان، بالعكس فالحصانة شرطا مهماً من شروط أداء النائب لدوره الذى اختاره له الشعب وتحتمه الديمقراطية لكن السؤال الذى أردت أن أطرحه هو: هل يكفى القانون فقط لضبط هذه الحصانة.. وحسن استخدامها؟