في ظروف أزمة عالمية في محصول القمح بسبب حرائق مزارع روسيا إحدي أكبر مصدري القمح في العالم بدأت تطل علينا في الأسابيع الأخيرة تداعيات هذه المشكلة حتي ولو زعمت الحكومة بغير ذلك. ولكن كالعادة يبدع السادة كبار المستوردين والسماسرة والتجار استغلال مثل هذه الأزمات لمصلحتهم وعلي حساب مصالح الناس وأرزاقهم وأقواتهم. وفي هذا السياق الدرامي المؤسف مع ظروف شهر رمضان ومن بعده عيد الفطر المبارك حيث من السائد زيادة الطلب علي الدقيق سواء لصناعة الخبز ثم كعك العيد تلك العادة السنوية للمصريين منذ أكثر من ألف عام. نشرت بعض الصحف خبرا يوم الثلاثاء الماضي مفادة أن في الكواليس أزمة جديدة وطاحنة بين أصحاب المخابز الافرنجية وبين أصحاب مطاحن الدقيق نتج عنها بشكل مبدئي كما يزعمون إغلاق أكثر من 90% من مخابز العيش الفينو. وقد هدد أصحاب المخابز بعدم المشاركة في صنع كعك العيد احتجاجا علي أصحاب المطاحن الذين رفعوا سعر الدقيق الفاخر إلي خمسة آلاف جنيه للطن.. وهو الدقيق الذي يصنع منه الكعك والبيتي فور والبسكويت وغيره من مستلزمات أطعمة العيد. وكان سعر الطن قبلها لا يتجاوز 2100 جنيه. أما ما يكشف هذه اللعبة الجشعة هم نفس أطرافها المستغلون للظروف حيث يرد صاحب إحدي شركات استيراد الأقماح وعضو الاتحاد العام للغرف التجارية بأن ما يحدث هو نوع من عبث التجار فالقمح الخاص بهذه المخابز متوفر لدي هؤلاء التجار منذ أربعة أشهر والمطاحن جاهزة للتسليم في أي وقت والسعر عالميا ارتفع بعد أزمة روسيا والسوق تستوعب ذلك مؤكداً أن ما يثيره أصحاب المخابز هو أزمة مفتعلة ويجب التصدي لها وإن ما يقدم عليه أصحاب المخابز هو نوع من الضغط غير المبرر! وفي نفس الإطار الذي يؤكد أن المواطن "الغلبان" قد وقع في شراك عصابة من الطامعين هو قلة حيلة وزارة الزراعة تجاه كل المستغلين بما فيهم للأسف الفلاح المصري الذي لا تحسن حكومتنا التعامل معه حيث أكد وزير الزراعة أن وزارته تسلمت 2.3 مليون طن قمح من المزارعين بزيادة مائة جنيه عن الأسعار العالمية. * * * وهنا يثور سؤال: إذا كانت الأسعار العالمية ارتفعت بسبب أزمة حرائق روسيا فلماذا تزيد أسعار الأقماح المحلية وما فائدة الدعم الذي تدفعه الحكومة للفلاح المصري من أجل تشجيعه علي زراعة محصول القمح لتحقيق قدر من الاكتفاء الذاتي وتقليل حجم الاستيراد من الخارج في حين أن المستهلك المصري في النهاية لن يستفيد من هذه الاستراتيحية المزعومة شيئا وسيعاني ارتفاعا في أسعار الخبز ومصنعات الدقيق سواء كان المنتج هو الفلاح المصري أو الأمريكي أو الروسي أو الأوكراني..!! بالتأكيد.. إن في هذه المعادلة شبهة استغلال وخلل إدارة وسوء تصريف لأمور حياتنا التي تركتها الحكومة لعبة في أيدي المتاجرين والمستغلين والسماسرة! أما مسألة تهديد السادة الأباطرة أصحاب المخابز بعدم تصنيعهم للكعك والغريبة هذا العام فنحن نقول لهم بكل صرحة:: والله ستكونون رجالا لو نفذتم وعدكم.. لأن في ذلك خسارة فادحة لكم بعد أن بالغتم في مكاسبكم الطائلة حيث يصل ثمن كيلو الكعك في بعض المحال إلي مائة جنيه لو حشوه بفص من عين الجمل وسيكون الرابح هو المواطن المصري الكادح العامل الذي سيوفر نقوده المحدودة وسيرحم معدته من مأكولات تصيبه بالتلبك المعوي بعد شهر كامل من صيام شكلا فقط في حين يزيد معدل استهلاكنا للطعام في هذا الشهر عن كل شهور السنة! ليت هؤلاء التجار المستغلين ينفذون وعيدهم حتي يأتي عيدنا ويمر بسلام دون أن نذهب إلي الأطباء بسبب هذا العجين الدسم المخلوط بالكذب والجشع والطمع! * * * المخازن.. وفوضي المحليات كعادتنا دائما لا نتحرك إلا بعد وقوع الكارثة. يتساوي في ذلك سلوكنا الشخصي في تعاملنا مع المرض حيث لا نعمل بالقاعدة الذهبية بأن الوقاية خير من العلاج أو عند استخدامنا للأجهزة الكهربائية أو الميكانيكية من أجهزة تكييف أو سيارات أو غيرها حيث لا نلجأ لفني الصيانة إلا بعد التعطل التام في حين أن الصيانة الدورية تغنينا عن مشكلات كثيرة يمكن أن تقع بسبب الإهمال الزائد عن الحد. وإذا كان هذا علي المستوي الشخصي.. فمن العيب والقصور أن يكون ذلك السلوك هو أسلوب عمل وإدارة في الأجهزة الحكومية أو قطاعات الخدمات والمرافق.. وأتصور أن مشكلاتنا هذه الأيام مع الكهرباء والمياه في شهور الصيف الحارة أصدق دليل علي عدم الاستعداد لمثل هذه الظروف بفترة كافية تغنينا عن الشكوي والصراخ الجاري الآن. نفس الحال ينطبق علي أجهزة الحكم المحلي في الأحياء والمراكز السكنية فقد تحولت الجراجات وشقق الطوابق الأرضية في معظم أحياء القاهرة الراقية والشعبية والعشوائية إلي محال تجارية ومخازن للبضائع بدون تراخيص وفي غيبة من القانون والقائمين علي تنفيذه حيث اعتاد أصحاب هذه المنشآت المخالفة تصريف أمورهم بطرق جهنمية واختراق لموظفي الإدارات الهندسية واستغلال ثغرات في القانون حتي ولو تحرك كبار المسئولين علي مستوي رؤساء الأحياء. فالمسألة لا تتعدي مجرد "فض" للشمع الأحمر عند تحرير المخالفة يقال إن مخالفته لا تتجاوز عشرين جنيها في حين يواصل المخالفون نشاطهم ولا تستيقظ الأجهزة المسئولة إلا عند وقوع الكوارث مثلما حدث في العام الماضي عندما اشتعلت النيران في عمارة شارع رمسيس أمام دار القضاء العالي وهددت وسط القاهرة بكارثة بسبب استغلال تجار قطع الغيار في منطقة التوفيقية للشقق السكنية في هذه العمارة التاريخية وتحويلها إلي مخازن لقطع غيار السيارات يكدسون بها المواد البلاستيكية والسيور الجلدية القابلة للاشتعال بسهولة. أما إحدي هذه المناطق الجديدة الخارجة علي القانون فهي المنطقة المقابلة للنزهة الجديدة في آخر شارع جسر السويس حيث تحولت معظم الجراجات إلي مخازن لسلع من كل نوع وشكل بدءا من المواد الغذائية القابلة للتلف حتي أخطر المواد الصناعية القابلة للاشتعال. وقد يندهش البعض عندما يعرف أن كثيراً من مستغلي هذه المخازن غير المرخصة شركات كبري ذات أسماء تجارية شهيرة تطاردنا في إعلانات الصحف والتليفزيون.. في حين يضرب أصحابها بقوانين الإسكان والبيئة والصحة عرض الحائط وذلك في فوضي عارمة تسود كل أجهزة المحليات وقد تحولت عاصمتنا التاريخية والحضارية إلي مستنقع وسويقة من العشوائية والتسيب! ولكن إلي متي سوف يبقي هذا الحال المزري علي نفس الدرب سائرا.. بل علي العكس فإنه يزداد توحشا وتغولا في ظل انفلات بشري وعمراني يستحيل السيطرة عليه! كان الله في عونك وعوننا يا محافظ القاهرة!