قال لى جارى على الطائرة.. أين القبلة؟.. أريد أن أصلى.. قلت له.. أينما تولوا وجوهكم فثم وجه الله.. نحن على ارتفاع 30 ألف قدم وإن شاء الله الصلاة مقبولة فأنت بين يدى الله.. بعد قليل حدث جدل كبير.. الشمس غابت والدنيا أظلمت فعلى أى توقيت سوف نفطر نحن الصائمين.. وانقسمت الآراء: نفطر على توقيت البلد الذى أقلعت منه الطائرة.. لا بل نفطر على مواقيت بلد الوصول.. أنا حيرتى كانت أكبر بكثير حيث كنت قادما من «سول» فى كوريا الجنوبية والترانزيت كان فى دبى الإمارات.. وأنت نويت الصيام فى الطائرة بين المسافتين عندما تبين لك الخيط الأبيض من الأسود وظهر الفجر من الشباك المجاور للسحاب وأنت معلق فى السماء.. كانت حيرة أنقذنا منها الحديث النبوى استفت قلبك ولو أفتاك الناس ولو أفتوك.. ووصلنا إلى حل وسط وفطرنا ودعونا الله أن يتقبل صيامنا.. طبعا الصائمون معهم رخصة أن يفطروا ولكن الصيام فى رمضان له حلاوة لا يدانيها صيام أى يوم آخر.. والصائم فى رمضان يحس بأنه يحلق ويطير فى سموات الرحمة والمغفرة وأنه قريب جدا من رضوان الله.. ونحن نقول دائما إلا رمضان.. يعنى مهما كان هناك من تقصير طوال العام به أعذار فإنه لا عذر مع رمضان.. أحد أصدقائى كان يعيش عيشة الخواجات ويجاملهم أحيانا فى المشارب ولم يكن ملتزما يوما بصلاة ولا شعائر، ولكنه حكى لى أنه سافر إلى المجر وبعض الدول الشيوعية فوجد المساجد فيها مغلقة بأقفال فاغتم كثيرا وغضب وثار مع أنه لم يكن من المصلين، ولكنها العاطفة الدينية التى غلبت عليه فأيقظت فيه هذه الغيرة الشديدة على بيوت الله.. وجوامع مصر فى رمضان عامرة بالكبار والصغار والناس حلوة وجميلة وأخلاقها راقية وكرمها زائد وحبها للخير متضاعف.. فعلا لو علمت أمتى ما فى رمضان لتمنت أن يكون الدهر كله رمضان.. انضباط وأخلاق وروح رياضية. هى بس مشكلة الطفاسة التى تفسد هذا المشهد الجميل.. مأكولات خرافية مطبوخة بطريقة شديدة التعقيد تكتظ بها الموائد.. مع أن الإنسان كل ما يحتاجه هو الماء وبضع تمرات.. والصحابة أنفسهم لم يكن فى بيوتهم إلا القليل.. لدرجة أن سيدنا على كرم الله وجهه كان فى بيته ثلاث تمرات فقط فتصدق بها على مسكين ويتيم وأسير.. فنزلت فيه الآية الكريمة.. «ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا» صدق الله العظيم.. وأنا تعرضت لموجة مشابهة من الكرم فى كوريا وصمم المسلمون هناك على إطعامى ساعة الإفطار وكانت التقاليد أن يبدءوا بالضيف فرفعت الطباخة العصوين (هم يأكلون بالعصى) والتقطت قطعة من السمك وهمت أن تضعها فى فمى وأنا لم أكسر صيامى بعد.. فماذا أفعل.. ابتهلت إلى الله أن ينقذنى.. فجاء الفرج حين قالت سيدة البيت: واضح أنك لا تحب اللحوم والأسماك.. أنت «فيجترين» أى أنت نباتى.. قلت يا فرج الله أنا فعلا نباتى والنبى نباتى وأكلت ما تيسر وشكرتهم وأسرعت ألحق بالطائرة.