صدر مؤخرًا عن مركز الأهرام للنشر والترجمة والتوزيع كتاب جديد وهام بعنوان "من بوش إلى أوباما: المجتمع والسياسة في الولاياتالمتحدة"، وهو من تأليف د.وليد محمود عبد الناصر. ومن وجهة نظر المؤلف فإن الكتاب لا يهدف إلى تقديم صورة كاملة ومفصلة عن المجتمع الأمريكي ومكونات ثقافته وأساسيات تكوينه وآليات عمله ووظائفه، كما لا يطمح بالتأكيد إلى أن يمثل عرضاً شاملاً لكافة جوانب السياسة الأمريكية، داخلية أو خارجية، خاصة أننا نتحدث هنا عن مجتمع وسياسات دولة غير عادية بأي مقياس من المقاييس، كما لا تقتصر تداعيات تفاعلات هذا المجتمع والسياسة على حدود الولاياتالمتحدةالأمريكية أو الشعب الأمريكي، بل يمتد إلى العالم بأسره، شرقه وغربه، ويؤثر على كافة شعوب المعمورة، أياً كان موقعهم، وذلك كله ببساطة لأننا نتحدث عن القوة الأعظم الوحيدة في عالم اليوم، سواء قبلنا ذلك أو رفضناه أو اختلفنا على توصيفه ومداه. كما قد يرى البعض، من منطلق اعتبارات أيديولوجية أو من قراءتهم للواقع واستشرافهم للمستقبل، أن هذا الوضع الفريد للولايات المتحدةالأمريكية سيزول خلال عقود أو أكثر أو أقل، ولكننا نعيش في الحاضر وفى المستقبل المنظور، وفى حدود المعطيات المتاحة لدينا الآن علينا واجب التعرف بشكل أفضل على مجتمع هذه القوة الأعظم وسياساتها لنحدد السبل الأفضل للتعامل معها. وتزداد هذه المهمة إلحاحاً في حالتنا نحن كمصريين وعرب ومسلمين، نظراً للتأثير المضاعف الذي صار للولايات المتحدةالأمريكية على أوضاع كثيرة في المنطقة التي نعيش فيها في نفس الوقت الذي تضاعف فيه تأثير تطورات المنطقة أيضاً على الولاياتالمتحدة، ليس فقط على سياساتها ومصالحها الخارجية، بل وأمنها القومي بتعريفه المباشر وتفاعلات تختص بالمجتمع الأمريكي من الداخل والمشهد السياسي الداخلي الأمريكي. ونعود إلى الهدف من هذا الكتاب، وهو الاكتفاء بتوفير مدخل عام لفهم المجتمع والسياسة في الولاياتالمتحدةالأمريكية، بدون ادعاء الشمول في التغطية أو الكمال في التفاصيل. فالكتاب يساعد على التعرف على دور الجماعات العرقية والدينية المختلفة داخل المجتمع الأمريكي والتي من الممكن إطلاق تعبير أقليات عليها مثل اليهود، وذوى الأصول الأفريقية، والعرب، والمسلمين، وفى الوقت نفسه تمارس دور جماعات الضغط على الأصعدة الداخلية والخارجية على حد سواء للتعبير عن مصالحها والسعي لتلبية مطالبها، وكيفية ترجمة ثقلها وتأثيرها إلى دور سياسي في عملية صنع القرار الأمريكي، سواء بشكل مباشر وغير مباشر. وداخل كل من هذه الجماعات يبرز الكتاب حدثاً ذا دلالة ويحلله، مثل دور الدكتور مارتن لوثر كنج بالنسبة للأمريكيين من أصول أفريقية، ومتحف "المحرقة" بواشنطون بالنسبة للأمريكيين اليهود، وخطاب الرئيس أوباما الموجه للعالم الإسلامي من جامعة القاهرة في 4 يونيو 2009 بالنسبة للأمريكيين المسلمين، ثم يقدم الكتاب في طياته مقارنة بين كل من هذه الجماعات وتنظيماتها وآليات عملها. بل إن المؤلف يذهب إلى أبعد من ذلك ويقارن داخل الجماعة الواحدة بين تنظيمات وأيديولوجيات فرعية متنوعة. ثم يتناول الدكتور وليد محمود عبد الناصر في كتابه دور أطراف مؤثرة في المجتمع الأمريكي نابعة من رحم هذا المجتمع تاريخياً. وفى هذا السياق، عرض المؤلف لتطور اليمين الديني المسيحي في الولاياتالمتحدة بتفريعاته المختلفة، ويحلل مواقفه السياسية والعقائدية وقاعدته الاجتماعية والقوى التي يمثلها. كما أنه في نفس الإطار، يعرض للصلة بين اليمين الديني المسيحي واليمين اليهودي، وكذلك بينه وبين الصهيونية المسيحية. ولكن المؤلف أيضاً استكمل الصورة عبر عرض دور كنائس أخرى بخلاف اليمين الديني المسيحي، بما في ذلك الكنيسة التوحيدية، وكذلك كنائس ذات خصوصية مثل "المورمونز". ويتطرق الكاتب إلى صعود وتراجع تيار "المحافظين الجدد" ومحطاته التاريخية المختلفة، وهو الذي بلغ قمة نفوذه وفاعليته السياسية خلال فترة الولاية الرئاسية الأولى للرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن (2001 – 2005) ثم بدأ في التراجع من بعد. كما يتعرض المؤلف بالتقييم لمستقبل هذا التيار بعد انتخابات نوفمبر 2008 الرئاسية والتشريعية في الولاياتالمتحدةالأمريكية. وبالمقابل، ألقى الكتاب الضوء على قوى أخرى لا تقع تقليدياً وتاريخياً في القلب من المشهد السياسي الأمريكي ولكنها تؤثر فيه وبات صوتها مسموعاً بشكل متزايد منذ فوز الحزب الديمقراطي بالانتخابات الرئاسية والتشريعية في نوفمبر 2008 وتولى الرئيس باراك أوباما مقاليد الرئاسة في يناير 2009 ، والمقصود هنا فئات ما يسمى باليسار الأمريكي، حيث يشرح المؤلف خلفية هذه الفئات ونشأتها وتطور تكوينها وتعدد أشكالها وصورها، وتذبذب أهميتها في المجتمع الأمريكي، وتأثيرها في أوقات سابقة وحالياً، وعلاقة مختلف فئات اليسار الأمريكي بالحزب الديمقراطي الأمريكي، ومدى نجاح هذه الفئات في ترجمة مواقفها السياسية إلى إنجازات على أرض الواقع. واتصالاً بنفس الموضوع، يتتبع المؤلف أطوار الحزب الديمقراطي وانحيازاته الاجتماعية وخياراته السياسية وتوجهاته الاقتصادية للتعرف على الموقع الفكري والسياسي للحزب على الخريطة السياسية الأمريكية. ويعرض الدكتور وليد لرؤى أمريكية متنوعة شديدة التناقض فيما بينها، مع وضد سياسات فترتي ولاية الإدارة الأمريكية الجمهورية السابقة للرئيس جورج بوش الابن، من خلال استعراض عدد ضخم من الكتب التي صدرت عن تلك الفترتين، وتحليل مضامين هذه الأعمال والمقارنة فيما بين الأطروحات التي تحملها، ومدى انطلاق هذه المواقف من أرضيات أيديولوجية مختلفة، سواء من اليمين التقليدي المحافظ أو اليسار أو القوى الليبرالية أو من دوائر المحافظين الجدد. ثم ينتقل المؤلف إلى تحليل طبيعة التوجهات اليمينية للإدارة الأمريكية السابقة للرئيس جورج بوش الابن، وكيف نجحت في تحقيق النصر للحزب الجمهوري في انتخابات 2004 بالرغم من الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 وتعزيز تلك التوجهات قبل أن تبدأ في منحنى الهبوط خلال فترة الولاية الثانية لتلك الإدارة. كما يتناول المؤلف بالتفصيل دلالات انتخابات 2004 لما قبلها ولما بعدها من محطات تطور المجتمع والسياسة الأمريكيين. ويطرح الكتاب بعد ذلك لبعض الرؤى الاستشرافية لمستقبل نظام الحزبين في الولاياتالمتحدةالأمريكية، والسيناريوهات المختلفة لذلك في ضوء افتراضات متباينة ومعطيات متعددة داخل المجتمع والحياة السياسية الأمريكية. ويربط المؤلف بين ما سبق من جهة وفرص وآفاق التغيير في النظام السياسي الأمريكي على الأصعدة المؤسسية والدستورية والجماهيرية من جهة أخرى. ويتناول بالتقييم العوامل التي يمكن أن تدفع باتجاه هذا التغيير وتلك التي تعمل ضده، ومدى جذرية هذه التغييرات أو اقتصارها على الجزء وليس الكل أو على الهامش وليس الجوهر أو على الثانوي بعيداً عن المركزي. ويتطرق الكتاب لعرض موجز للتوجهات العامة للسياسة الخارجية الأمريكية من منظور الحزبين الديمقراطي والجمهوري، مع المقارنة فيما بين الدوافع والأهداف والأولويات في الحالتين فيما يتعلق بالسياسات الكونية وتجاه القضايا الأساسية المطروحة على الساحتين الأمريكية والدولية، أمنياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً وبيئياً وغير ذلك. ويركز المؤلف في هذا المجال على البرامج السياسية للحزبين خلال انتخابات نوفمبر 2008 الرئاسية والتشريعية الأمريكية. ويتناول المؤلف بعد ذلك على سبيل التخصيص والتحديد معالم وركائز وأولويات ودوافع السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط والتطور التاريخي لهذه السياسة ومدى ثبات أو اختلاف أولوياتها من عهد إلى آخر ومن إدارة إلى أخرى ومن فترة سيطرة حزب إلى فترة سيطرة حزب آخر. كما يتميز الكتاب بتحليل الوثائق الأمريكية الخاصة بحرب الأيام الستة في يونيو 1967 من خلال تقييم مؤتمر استضافته العاصمة الأمريكية لهذا الغرض. وينطلق الكتاب من هنا إلى عرض ذي طابع عملى وملموس لنماذج لدراسات لمراكز أبحاث أمريكية مؤثرة عن الشرق الأوسط والرؤية الأمريكية له والمصالح الأمريكية فيه وأنماط العلاقات العربية الأمريكية أو الإسلامية الأمريكية، بما في ذلك التعليق على دراستين هامتين صدرتا بشأن العلاقات بين الولاياتالمتحدة والعالم الإسلامي واتجاهات الرأي لدى المواطن العربي. ثم يعرج الكتاب على عرض وتحليل وتقييم لرؤى وتصورات أكاديمية لمستقبل العلاقات العربية الأمريكية من داخل الولاياتالمتحدة، وتحديداً من دوائر عليمة بالشرق الأوسط، سواء أمريكية عموماً أو من الأمريكيين العرب على وجه الخصوص. وكان من الصعب على الكتاب تناول المعالجة الأمريكية لقضايا الشرق الأوسط دون التعرض ردود فعل الداخل في المجتمع الأمريكي إزاء حرب العراق وتطورات محطاتها، مع تنوعها، ثم تزايد نبرة وارتفاع أصوات الدوائر المعارضة لهذه الحرب داخل المجتمع الأمريكي بمرور الوقت، ومن ثم يقوم الكتاب بتحليل كيفية تناول المسألة العراقية ومستقبل شكل العراق وصورته بعد غزوه من قبل الباحثين والمحللين الأمريكيين من مختلف الاتجاهات ومن المنتمين لمراكز أبحاث مختلفة قبل اتخاذ قرار غزو العراق في مارس 2003، ومقارنة ذلك بما حدث فعلياً على أرض الواقع بعد الغزو. ولا يفوت المؤلف أهمية التعرض لملف العلاقات الأمريكيةالإيرانية من منظور تطوره التاريخي وفى طوره الراهن، عارضاً للملفات العالقة فى هذا الملف من وجهة النظر الأمريكية، خاصة منذ التطور الدراماتيكي فيه عقب انتصار ثورة 1979 في إيران، ومركزاً على وجه الخصوص على الحالة الراهنة لتلك العلاقات عقب تولى الرئيس محمود أحمدي نجاد للرئاسة الإيرانية عام 2005، خاصة من المنظور الأمريكي. ولا ينتهي تناول المؤلف للشرق الأوسط وقضاياه من المنظور الأمريكي دون أن يعرج على تحليل ظاهرة الجماعات ذات التوجه الإسلامي المسيس، سواء داخل العالم العربي أو خارجه، أو داخل العالم الإسلامي أو حتى خارجه، وذلك من منطلق معالجة وتحليل المواقف الأمريكية إزاء هذه الجماعات وتغيرات هذه المواقف بحسب الظروف والتوقيت والمكان والمصالح الأمريكية الموضوعة على المحك. كذلك يغطى الكتاب في نهايته علاقات الولاياتالمتحدة مع دول أخرى كانت تسمى ب"المارقة" بشكل عام، ويتناول تفصيلاً ملفين ساخنين: العلاقات الأمريكية مع "كوبا" و"كوريا الشمالية"، مع الطبيعة المختلفة لكل منهما سواء من الجانب الأمني أو السياسي أو الجيواستراتيجى أو الأيديولوجي أو الاقتصادي، باعتبارهما من الدول القليلة في عالم اليوم التي ما تزال تتبنى الماركسية وتسعى لتطبيقها، مع التنوع في ذلك بين تجربة وأخرى. ويتميز الكتاب بالتعرض للأصول التاريخية لأزمة العلاقات الأمريكية مع الدولتين وأسباب نشأتها وتطورها وتواصلها على امتداد أكثر من خمسة عقود فى الحالتين، ويرصد آخر التطورات في هذين الملفين من المنظور الأمريكي ويسعى لتفسيرهما في ظل معطيات داخلية دون تجاهل البيئتين الإقليمية والدولية وتأثيراتهما والتفاعل فيما بينهما وبينهما من جهة وبين الاعتبارات الداخلية الأمريكية من جهة أخرى. ويمثل هذا الكتاب في جزء كبير منه نتاج قراءات ومناقشات ومحاورات واحتكاك عملي لسنوات في مطلع الألفية الثالثة بالمجتمع والسياسة في الولاياتالمتحدة وبالاتجاهات الدائرة فيهما، سواء ما هو فوق السطح أو ما هو كائن بين السطور أو غير مرئي على الإطلاق، بالإضافة إلى ناتج مناقشات وحوارات في الولاياتالمتحدة خلال زيارات للمؤلف للولايات المتحدة قبل هذه الفترة وبعدها. كما ساعد في إعداد هذا الكتاب وبلورة أفكاره ومكوناته قيام المؤلف بتدريس مادة عن السياسة الخارجية الأمريكية عام 2007. يذكر أن المؤلف حرص خلال الكتاب على الابتعاد عن الانسياق إلى أي تفسيرات تكتفي بالبعد "التآمري" للظواهر والأحداث، وهو بعد عادة ما يكون من السهل إتباعه وإغفال ما سواه، ولكنه بالطبيعة يقصر زوايا الرؤية ويضيق منها ولا يساعد على الفهم والتعمق بالدرس والتحليل، وإن نجح في أن يؤدى إلى تعبئة أو تحريض.