انشغلت مواقع «الفيس بوك» بحكاية إعلان محامية قرارها بالذهاب إلى أحضان المسيح. محامٍ متعصّب قرّر مقاضاتها هى وآخرين تنصّروا وتركوا الإسلام. بعض المسيحيين المرتبطين بالدولة هاجموا التنصير. المسلمون المتعصّبون اتهموا الدولة بالمشاركة فى مؤامرة على الإسلام. ما العلاقة بين دين فرد واستقرار الدولة؟ صفقة تقاسم الخراب الصفقة ليست جديدة. الجديد هو استمرار الطرق القديمة فى ترتيب العلاقة بين «جماعة الإخوان المسلمين» والنظام، رغم أن طبيعة النظام تغيّرت من الناحية الشكلية، والجماعة من المفروض أن قوتها تعمّدت بمقاعد فى البرلمان. لكن الصفقة ستتمّ، بالأسلوب الذى يقوده العقل الأمني، وفق قواعد لعبة أخرى هى المساحات الفارغة. الأسبوع الماضى تسرّبت أنباء عن صفقة جديدة، تمت عبر شخصية سياسية رفيعة المستوى، تضمّنت عرضاً من نقطة واحدة: الإفراج عن مجموعة من القيادات التى اعتقلت أخيراً، فى مقابل عدم خوض الانتخابات المقبلة. الجماعة اعترفت بالصفقة، عبر المرشد العام، محمد مهدى عاكف، لكنها استخدمت اسماً مخفّفاً لها، إذ أطلقت عليها مسمّى «التفاهمات». النظام نفى ولم يجهد نفسه فى البحث عن اسم جديد؛ فالدولة أعلى من «التفاوض» مع خصم سياسى محظور النشاط. وكبرياء الدولة لا يسمح باللعب والصفقات. التسريبات تتأكد كل يوم. النظام فى نفق الانتقال ولا يريد تلويث اللحظات الحساسة بخطايا قديمة. الصفقة هذه المرة تختلف. ليس هدفها تعزيز السلطة وسيطرتها، ولكن تبييض وجهها. «ولماذا تحتاج السلطة إلى التبييض؟»، قال السياسى العجوز، بعدما غمز بطرف عينه: «لكى تمرّ كوارث أخرى». المحامى المشغول بترتيبات، لا يلحظها سوى الخبراء، اشتم رائحة ما: «... يبدو أن فى الطبخة شيئاً ما يحتاج إلى تغطية قانونية، ولهذا يريدون ضمانة المداخل القانونية». إشارة المحامى إلى ترتيبات فى هيئات القضاء تضمن المرور من الطعون أو الهجمات القانونية على وضع يدبّر فى الليل وفى الخفاء، كما يرى المهووسون بفكرة تسريب الوريث إلى قصر الرئاسة. رجل من اللاعبين المؤثّرين فى صناعة الرأى العام، وقريب من النخبة تساءل: «هل هناك ضمانة تمنع وصول الإخوان إلى الحكم؟»، وصاحب السؤال يرى أن «ابن الرئيس هو الضمانة. وحده يعرف أصول الحكم. ووحده يسيطر ويواجه مؤسسات كبرى حدث لها اختراق من قبل الإخوان». تتعامل النخبة المحيطة بنظام مبارك على أن وصول «الإخوان» إلى الحكم لعنة يخاف منها الجميع. إنها «الإخوانو فوبيا» التى يستغلها النظام فى بثّ الرعب. ولأنّ سعى الإخوان إلى الحكم حقيقة، فإن المعارضة تتحالف فى بعض الأحيان مع النظام لضرب الجماعة الإسلاميّة، خوفاً من تحوّل مصر إلى دولة «مشايخ» و«فقهاء» يضربون أطلال مدنيّة الدولة. التحالف من أجل أطلال الدولة يغطّى حقيقة تسرّب أفكار الإخوان (وليس تسرّب أشخاص مخترقين من الإخوان) إلى جهاز الدولة. وإن مصر تواجه نظاماً متسّلطاً ومعارضة متسلطة. النظام رغم كل الفشل والهزيمة والغضب الذى يلاحقه متشبّث حتى النفس الأخير بالاستمرار على أطلال الخراب الذى أوصل البلد إليه. و«الإخوان المسلمون» آخر الباقين من مذبحة الموت البطيء للمعارضة. ينتظرون المسمار الأخير ليصعدوا إلى السلطة. ويستبدلون أحمد بالحاج أحمد أو البكباشى بالمرشد. و«الإخوان» خبراء فى الصعود من أسفل. نفذوا على المدى الطويل خطة تغيير صورة المجتمع عن نفسه. وأعلنوا دولة دينية سرية تمارس سلطة معنوية على الدولة العسكرية العلنية التى تمارس الاستبداد السياسى على الجميع. والآن يريدون القفز على السلطة، ويعتبرون أنها أحلام الأمة. قيادات الجماعة تقول هذا الكلام فى لحظات الاستراحة وبعيداً عن الضغط، لكنهم أنفسهم، وفى لحظات أخرى، يصابون بالهلع ويرددون كلمة واحدة: لا نسعى إلى الحكم... لا نسعى إلى الحكم. السؤال الغائب هنا: إلامَ تسعى جماعة «الإخوان المسلمون»، التى توصف بأنها أكبر حزب سياسى معارض، ما دامت لا تسعى إلى الحكم؟ إنه ليس إلا الرضى بتقسيم العمل. الجماعة تعيش أسطورة اضطهادها. والنظام يخاف من الجماعة ويرتّب معها الصفقات. الصفقة الجديدة نسخة تمحو صفقة 1995 حين تركت الأرض فارغة ل«الإخوان». النظام يريد كل الأرض الآن. ويريد أيضاً أن تعود الجماعة إلى مرحلة ما قبل الشراكة المكروهة تحت قبة البرلمان. الإخوان هم ورثة أحزاب تقوم على الأيديولوجيات الكبيرة، وهى أحزاب تتفكك ببطء لمصلحة أكبر حزب الآن فى العالم. حزب الاستهلاك. فى مصر «حزب الاستهلاك» هو الأقوى. حزب يأكل كل الأفكار ويضعها فى المفرمة، من الدين إلى الجنس إلى السياسة. مجتمع يتعلم الدين الآن من سيل الفتاوى على الفضائيات، وأجهزة الموبايل وشبكات الإنترنت. مجتمع يستهلك الفكرة الأصولية كما استهلك قبلها تحالف قوى الشعب العامل. الاستهلاك يلتهم الرموز الكبيرة للأحزاب السياسية ويفكّكها ويحوّلها إلى سلع، من الحجاب إلى رحلات الحج والعمرة إلى دروس الدعاة الجدد. النظام الحالى تحكمه وتتحكم فيه شهوة تتوحش. شهوة السلطة الخالدة. سلطة لا يحاسبها أحد. ورغم أن النظام قام بعمل تجديدات فى كوادره واستغنى عن خدمات «الخدم القدامى» واستبدلهم بخبراء أكثر علماً وحداثة. هذه هى القوى الناعمة التى تحاول بناء قواعد دولة من كتالوغات عالمية، بينما تسير قوى أخرى باستبدادها القديم، لكن بعد أن تضعه فى غلاف أكثر جاذبية. هل ستتم صفقة «الإخوان» والنظام؟ لا أحد يعرف على وجه الدقة، لأن الجانب الصعب من نصيب «الإخوان». النظام لن يخسر كثيراً بالإفراج عن القيادات المعتقلة. لكن «الإخوان» سيخسرون إذا عادوا إلى مرحلة العمل السرى بالكامل. خسارة على مستوى مساحات التمثيل فى السلطة التشريعية بما يتيحه ذلك من فرصة صناعة مزاج اجتماعى مؤيد لأفكار الجماعة، وذلك عبر مزيج من عواطف الهوية المجروحة ومشاعر الغضب والاحتجاج من الديكتاتورية والفساد. لا يمكن حساب صفقة غير معلنة. وهناك طرف ينكرها بالكامل. لكن من الممكن تلمّس الغيوم المحيطة بكل شيء فى مصر. حرب «الظلام والنور» على «دين الدولة» مصريون أمام ضريح السيدة زينب خلال إحياء يوم مولدها فى القاهرة (طارق مصطفى رويترز)مصريون أمام ضريح السيدة زينب خلال إحياء يوم مولدها فى القاهرة (طارق مصطفى رويترز)ظنّ كثيرون أن الصراع فى مصر بين «الأصوليين والتنويريين» انتهى، لكنه عاد أخيراً للظهور، هذه المرة على عنوان «دين الدولة» والمنتمين إلى حظيرتها «أشهد أن لا إله إلا الله وأن...»، تحشرج صوته قبل أن يكمل الشهادتين على الهواء. لم تكن القناة التلفزيونية معتادة على مثل هذه الأجواء العاطفية المشحونة. القناة مزاجها ليبرالي، وخلف أجندتها انشغال بتقديم «تنوير» مصرى يردّ على «ظلامية» طاغية. وهى أجندة تستوحى عملها من أزمنة قديمة كشفت أحياناً عن فتنة بالنسخة المصرية للصراعات الفكرية فى أوروبا. مسيرة النسخة المصرية تضمّنت محطات جادة نشرت أفكاراً جديدة على عقل أغلقه الفقهاء سنوات طويلة. لكنها تضمنت محطات فكاهية، حين أرادت الدولة، فى معركتها مع الجماعات الأصولية، استعارة أسلحة ثقافية وفكرية، فاعتبرت أن هناك عصر تنوير مصرياً (فى الأربعينيات والخمسينيات غالباً) لا بد من استعادته. ومن هنا كان لا بد من إطلاق تسمية على خصوم الحرب الجديدة (القديمة)، فكانت الظلامية. معركة النور والظلام فى تسعينيات القرن الماضى شهدت مساخر ومآسى كبيرة، من قتل الصحافى فرج فودة، ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ، إلى تكفير نصر أبو زيد وتفريقه عن زوجته وإجباره على الهجرة إلى هولندا بعدما فشلت الدولة فى حمايته، لا لأنها عاجزة أمنيّاً، بل لأنها لا يمكنها الدفاع حتى النهاية عن خطابات تصدم العقل الواقع تحت سطوة الأصولية. الدولة فى معركتها الوجودية مع الأصوليين وضعت المثقّفين (وبالتحديد من المغرمين بمعارك التنوير والظلام) فى فرقة انتحارية سرعان ما تخلّصت منها بعد انتصارها فى المعركة الحربية على الأصوليين المسلحين. هكذا ارتاحت الدولة فى اليوم الذى قتلت فيه فلول الجيش الأصولى الزاحف وسجنتها. استراحت وقرّرت الوقوف على الحياد، بشرط ألا تمسّها شرارة من المعركة، فتتّهم فى دينها أمام جماهيرها المشحونة أو تتّهم فى حداثتها أمام العالم «المتنوّر». الدولة سيطرت بعدما ألقت بظلالها الثقيلة على نتائج حرب «النور والظلام»، ونزعت من كل طرف الشحنة الفعالة. لتخرج المعارك أكثر هدوءاً وأقرب إلى مناورات التدريب الموسمية فى الجيوش خلال لحظات السلم (تعلن الوجود وتقول للأعداء نحن هنا). العين الساهرة للأصولية لم يعد يهمّها «التنويريّين»، إلا حينما يقتربون من تخوم الدولة. عندما كتب حلمى سالم قصيدة «شرفة ليلى مراد»، فى مجلة تابعة للدولة، وأخيراً عندما حصل الدكتور سيد القمنى على جائزة الدولة التقديرية. كُتب القمنى معروفة، وجرأتها كانت محل جدل فى التسعينيات، وخصوصاً كتاب «الحزب الهاشمي»، الذى انشغل بقراءة مختلفة للتاريخ السياسى فى الإسلام. قراءة أيديولوجية تثبت أن هناك مجموعة مصالح فرضت تصوراتها على الإسلام ليكون مشروع دولة. بدا القمنى فى المعركة «متطرفاً» يستخدم أسلحة تعرف وجهتها مسبقاً. رحلته فى البحث تعرف مسبقاً ما تريد اكتشافه. ولهذا كان الموقف غامضاً من إعلان الدكتور القمنى «توبته» عن أفكاره بعد «تهديد» بالقتل وصله على البريد الإلكترونى من تنظيم «القاعدة». اختفى القمنى عن الأنظار بعد التوبة، لكنه عاد إليها مع جائزة الدولة. عاد فى مشهد إعلان الشهادتين والضجة التى أثارتها المواقع المتقدمة فى فضائيات أصولية تتلهف على مثل هذه المعارك، وتنافس بها نجوم الإثارة الأصولية. هؤلاء ليسوا راديكاليين يعتزلون الدولة أو يهجرون المجتمع، لكنهم يرون الدولة دولتهم ويرفعون المادة الثانية من الدستور ليؤكدوا أن مصر إسلامية، وأنه لا يصح منح جائزة من أموال الشعب لمن تراه الأصولية كافراً مرتدّاً عن الملّة. وهكذا، فإعلان الدكتور القمنى الشهادتين ليس فقط دليلاً على إسلامه، بل على انتماء إلى الدولة. فهو «مسلم علماني»، كما وصف نفسه. البيان الأول، والوحيد تقريباً، صدر عن «جبهة علماء الأزهر»، وهى جبهة منشقّة ومنبوذة من الأزهر وليس لها شأن رسمي. لكنها فى الفترة الأخيرة خرجت من خنادق الإثارة الأصولية، وأصبح مرجعاً مهماً اعتماداً على اسم المؤسسة الدينية (الرسمية). البيان قدم قراءة ناقصة لكتب القمنى واقتطع مقتطفات مشوّهة وسار خلفها جيش الإثارة الأصولية كله. قدّموها بأجواء عاطفية مشحونة تتعامل بمنطق واحد أنه ليس خروجاً عن الدين فقط، لكن عن الدولة أيضاً. دفاع القمنى سار فى تأكيد الانتماء إلى الدين، ولكن إلى دولة مختلفة. دولة علمانية تقبل الاختلاف فى العقيدة. كلاهما يتحدث عن الدولة التى قررت المشاهدة الصامتة حتى الآن. الأصوليون قرروا توريطها عبر المفتي، وقدم صحافى طلب فتوى حذف الأسماء حول شرعية حصول كافر على جائزة الدولة. الفتوى طالبت بسحب الجائزة فوراً. ولم تقل لماذا؟ هل لأن الدولة دولة مؤمنين فقط يطرد منها من ليس مسلماً؟ أم لأن هذه شروط الشرعية؟ المعركة عشوائية لم يبق منها إلا مزيد من التشويش والتباس مفهوم الدولة... والفرد. الدولة لمن؟ والشهرة لمن؟ لشيوخ الإثارة الأصولية؟ أم للخارجين عن النص العام؟ التلفزيون شريك فى الحرب. يبحث عن صدمات ولا يتحمّلها فى الوقت نفسه. لا المحطات التى تنحاز إلى التنوير استطاعت إكمال الشوط إلى آخره، وأعلن منها القمنى إيمانه، ولا محطات الدولة استطاعت اتهام القمني، وإن اختفت تحت خطاب التعاطف نبرة لا تخلو من إدانة وجهل بالمعركة. المعركة كلها تدور حول هوية معلقة فى الهواء. يمسكها الأصوليون بأيديهم وأسنانهم ويرون أنها صلبة متماسكة ومعرضة للابتلاء. ويراها الطرف الآخر ضرورية لتمرير خطابهم، الذى مرّ من قبل ولم يستقرّ طويلاً.