التهنئة واجبة أولا لكل من ساهم فى صنع الفوز الكبير الذى حققه الفريق المصرى لكرة القدم على نظيره الجزائرى فى الدور قبل النهائى لتصفيات كأس الأمم الأفريقية. ورغم أننى كنت قد فقدت الاهتمام منذ سنوات بمتابعة مباريات كرة القدم فإننى حرصت على متابعة هذه المباراة بالذات، والتى شاءت الأقدار أن تأتى بعد أسابيع قليلة من مواجهة كانت قد جرت بينهما فى تصفيات كأس العالم. ولأن هذه المواجهة كانت قد أسفرت عن أحداث مؤسفة أضرت بنسيج العلاقة بين شعبين شقيقين، وكادت تفضى إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بينهما، فقد كان من الطبيعى أن يسود شعور عام بالقلق والتوتر لدى الشعبين، لذا تمنى الجميع أن تمر هذه المباراة بسلام وأن تسفر عن نتائج تساعد على فتح الطريق لإعادة ترميم ما وقع من أضرار. ولحسن الحظ فإن المباراة أقيمت فى أنجولا، بعيدا عن الشحن الإعلامى ومحاولات التوظيف السياسى من جانب نظامين حاكمين لا يتفوق أحدهما على الآخر إلا فى درجة فساده واستبداده، وهو ما تؤكده تقارير منظمة الشفافية العالمية. ولأننا لم نستمع إلى لغط مذيع يتحدث عن «معركة مع العدو الجزائرى»، أو نشهد حيرة الكاميرات وهى تبحث بشغف عن وجه جمال أو علاء مبارك ليتصدر المشهد حين يحرز الفريق المصرى هدفا، فقد كان بالإمكان أن نشاهد هذه المرة مباراة كرة قدم حقيقية بين فريقين يتنافسان بشرف للفوز ببطولة رياضية، وبين مدربين يحاول كل منهما إظهار تفوقه فى رسم خطط وتكتيكات تمكنه من إحراز النصر، بدلاً من شىء يشبه الحرب بين دولتين شقيقتين!. فى سياق كهذا كان من الطبيعى أن يبرز بوضوح تفوق الفريق المصرى، بعيدا عن صرخات جمهور مشحون على الناحيتين بخزعبلات إعلام غير ناضج على الصعيدين المهنى والسياسى، على نحو دفع الفريق الجزائرى إلى تعمد العنف لتعويض فارق المهارة، بدليل طرد ثلاثة من كبار لاعبيه، وهو عامل ساعد بدوره على انهيار الفريق الجزائرى وتسبب فى خسارة ثقيلة لا أظن أنه سينساها. ولأن نتيجة المباراة تبدو عادلة ويصعب الطعن فى مصداقيتها وفى تفوق الفريق المصرى، فإننا نأمل أن تسهم فى مداواة جروح البعض وتخفيف صلف البعض الآخر، وأن يتذكر الجميع أنهم فى منافسات رياضية لها قواعد وأصول وأخلاقيات، وليسوا فى حالة حرب!. وأيا كان الأمر، فقد جاء أداء الفريق المصرى فى أنجولا مساء الخميس الماضى ليذكرنا مرة أخرى بما يمكن للمصريين أن يحققوه إذا ما أتيحت لهم ظروف تسمح لهم بالتنافس بحرية، بعيدا عن تدخلات وقيود وتعقيدات النظام الحاكم وعن المناورات التى اعتادها لتبرير سياساته الخاطئة أو لاستثمار وتوظيف كل إنجاز لحسابه هو، بل ونسبته إلى نفسه، مع التنصل من كل فشل أو هزيمة وإلقاء المسؤولية على آخرين دائما. لذا ليس من المستغرب أن نجد مصريين كثيرين يحصلون على أعلى درجات التقدير وأرقى درجات التكريم وأرفع الأوسمة وأكبر الجوائز فى معظم المجالات التى تتطلب جهودا فردية، لكننا لا نجد الشىء نفسه فى المجالات التى تتطلب جهودا جماعية، ربما باستثناء تلك التى لا تستثير حساسية النظام أو تستدعى تدخلا غليظا من جانبه. وليس من المستغرب أيضا أن نجد المصريين يبدعون فى الخارج بأكثر مما ينجزون فى الداخل. أما مصر، الدولة والنظام، فكثيرا ما تجد نفسها متلبسة بالحصول على صفر فى المونديال، أو مصنفة فى التقارير العالمية ضمن الشريحة الدنيا فى مجالات التنمية، أو حقوق الإنسان أو الشفافية ومكافحة الفساد، أو التعليم، أو الرعاية الصحية، أو التقدم العلمى والتكنولوجى، أو النظافة، أو المحافظة على البيئة... إلخ. ومن الطبيعى أن تلفت هذه المفارقة الواضحة بين علو الشأن المصرى على المستوى الفردى والإنسانى، وتدنى مكانته على المستوى المجتمعى أو الإقليمى أو الدولى - انتباه وتأمل كل الغيورين على مصلحة هذا البلد والمهمومين بمستقبله. وأظن أن الكل بات مقتنعا اليوم، سواء أفصح عن هذه القناعة صراحة أو ضمنا، بأن سببها الرئيسى وربما الوحيد يكمن فى غياب الديمقراطية، أى فى استبداد النظام الحاكم وفساده وعدم وجود إطار دستورى وتشريعى صحيح يتيح للشعب المصرى فرصة تصريف شؤون بلاده فى ظل مناخ يسمح بتداول السلطة فى إطار من الشفافية والمساءلة. كما أظن أن الكل بات مقتنعا أيضا بأنه ما لم يتمكن الشعب المصرى من الإمساك باللحظة الراهنة، والضغط من أجل إحداث تحول حقيقى فى اتجاه السير على طريق الديمقراطية فلن يقتصر الخطر الذى ستواجهه مصر فى المستقبل القريب على استمرار احتلالها موقعا متدنيا على قائمة الدول المتقدمة، ولكن قد يمتد ليشمل تماسكها الاجتماعى الذى قد يضعف إلى الدرجة التى تؤدى إلى تحولها التدريجى إلى دولة فاشلة على غرار دول أخرى كثيرة بدأت تعج بها الساحة الإقليمية المحيطة. لذا لا ينبغى أن تلهينا الانتصارات الكروية عن حقيقة ما يجرى فى أعماق مجتمعاتنا الهشة التى تزداد هشاشة وضعفا يوما بعد يوم. فحتى فى ميدان كرة القدم، الذى ثبت أننا نملك فيه طاقات كامنة كبيرة، لا يبدو أن بوسعنا أن نحافظ على إنجازاتنا فيه لفترات طويلة فى ظل التدهور المستمر للأوضاع السياسية والاجتماعية وغياب الديمقراطية والمشاركة السياسية. فى سياق كهذا يبدو لى أنه لا توجد قضية أخرى على جدول أعمال الوطن يمكن أن تعادل فى أهميتها قضية البناء الديمقراطى. ولأن مصر مقدمة على انتخابات تشريعية فى نوفمبر من هذا العام، ثم على انتخابات رئاسية فى نوفمبر من العام المقبل، فأمام الشعب المصرى أقل من عامين، وهى فترة زمنية محدودة جدا، لاختبار قدرته على تغيير الواقع القائم وإيجاد واقع جديد قابل لأن يولد فى أحشائه أمل يسمح بالبدء فى اتخاذ خطوات جادة لبناء نظام ديمقراطى حقيقى. وفى تقديرى أن ولادة مثل هذا الأمل، خلال تلك الفترة الزمنية المحدودة، تتوقف على أمرين لا ثالث لهما. الأول: ضمان نزاهة الانتخابات المقبلة، سواء كانت تشريعية أو رئاسية، وهو ما يتطلب إسناد الإشراف الكامل على العملية الانتخابية، بدءاً بالقيد فى الجداول وحتى الإعلان عن نتائجها النهائية، للقضاء الذى يتعين أن يمارس صلاحياته الكاملة فى ظل رقابة محلية ودولية تتسم بالشفافية. وبوسع أى محلل سياسى أن يدرك بسهولة استحالة توافر هذا الشرط دون القيام باتخاذ خطوات عملية محددة، فى مقدمتها تعديل المادة 88 من الدستور. أما الأمر الثانى فهو فتح الباب أمام كل من يجد فى نفسه القدرة والكفاءة للترشح لمنصب رئاسة الدولة، ولا بأس من وضع ضوابط موضوعية على عملية الترشح ضمانا للجدية، لكن ليس بالطريقة المنصوص عليها حاليا فى المادة 76 التى تبدو مفصلة على مقاس شخص وحزب بعينه. ولأن هذه المادة، بصيغتها الراهنة، تضع قيودا غير موضوعية على حق الترشح، فلا يمكن لهذا الشرط أن يتوافر إلا بتعديلها. لكن ماذا لو لم تستجب الدولة وحزبها الحاكم لمطالب تعديل الدستور، على الأقل المادتان 76 و88 اللازمتان لتوفير الحد الأدنى اللازم لضمان جدية ونزاهة الانتخابات التشريعية والرئاسية؟ هذا هو السؤال الذى يتعين على جميع القوى المؤمنة بالديمقراطية أن تجيب عليه، وربما يكون هذا هو أحد المحاور التى يتعين أن تحظى برعاية خاصة فى الندوة التى تنظمها لجنة الحريات فى نقابة الصحفيين تحت عنوان: «مستقبل الديمقراطية فى مصر». لذا أود، بهذه المناسبة، تحية جهود الأستاذ محمد عبدالقدوس، مقرر لجنة الحريات فى نقابة الصحفيين، الذى اقترح تنظيم هذه الندوة مساء يوم الثلاثاء المقبل الموافق 2 فبراير، ودعانى للمشاركة فيها ضمن مجموعة كبيرة من الأكاديميين والناشطين السياسيين الذين يمثلون مختلف ألوان الطيف السياسى والفكرى فى مصر. وفى تقديرى أن هذه الندوة تجىء فى وقتها تماما، وتستجيب لحاجة ملحة تستحق أن تطرح وأن تناقش، بل وأن يتصدر بحثها جدول الأعمال الوطنى فى المرحلة الراهنة. فمصر تبدو فى أمس الحاجة فى هذه المرحلة إلى خارطة طريق توضح لها السبل التى يتعين على الشعب المصرى أن يسلكها كى تقوده فى النهاية إلى النقطة التى يستطيع عندها أن يعلن عن تشكيل لجنة تحضيرية لصياغة دستور جديد تماما يؤسس لنظام ديمقراطى كامل. لذا أتوجه إلى جميع رموز النخبة المصرية، بشقيها السياسى والفكرى، لحضور هذه الندوة والمشاركة فى فعالياتها. فبوسع هذه الندوة أن تقدم إسهاما هائلا فى خدمة الوطن إذا استطاعت أن ترسم بعض الخطوط على صفحة خارطة طريق مصر إلى الديمقراطية.