سيد طنطاوى وبيريز قد يكون محمد سيد طنطاوى أقل من تولوا مشيخة الأزهر علما، وربما كان أقلهم فهما لشئون الحياة (وبالتأكيد هو أقلهم شعبية وقبولا من الناس!)، ويمكن أن نحتمل هذا كله، باعتبار أن الرجل تولى هذا المنصب بالتعيين، وأن من جاءوا به راضون عنه وعن موافقه وفتاواه، ولا يهمهم إن كانت أغلبية الأمة تراه دون المنصب الجليل علما وعقلا، ولكن من يحتمل أو يقبل أن ينضم الرجل الذى يصفونه ب "الإمام الأكبر" لقائمة رجال التطبيع ودعاته فى مصر؟! هذا ما حدث، ويحدث، منذ سنوات، وعلى النحو التالى: (1) فتوى بجواز التطبيع للشيخ سيد طنطاوى سجل ملىء بالكبوات والعثرات والخطايا فيما يخص القضية الفلسطينية، ولكن الخطيئة الكبرى بحق كانت فى سبتمبر 2005، حين قال "لا يوجد فى الدين الإسلامى ما يحرم التطبيع مع الدول الأخرى، خاصة إسرائيل، طالما كان التطبيع فى غير الدين وفى المجالات التى تخدم شئون الحياة واحتياجاتها!!"، فبهذه الفتوى ذات الكلمات المعدودة، دخل الرجل التاريخ باعتباره أول شيخ للأزهر فى تاريخ صراعنا مع العدو الصهيونى، يدعو للاعتراف ب "إسرائيل"، ومعاملة الصهاينة "سارقى فلسطين" كباقى شعوب الأرض، التى لم تحتل أرضنا، ولم تُرق دماءنا، أو تدنس مقدساتنا!! دخل التاريخ، ولكنه اختار أن يدخله من باب التطبيع، وموالاة أعداء الأمة، ومصافحتهم بحرارة ومودة، والاعتراف بكيانهم الغاصب!! ويبدو أن الرجل اعتاد أن يتلقى الناس غالب فتاواه بالاستهجان والتنديد، وأن يقابل ذلك باللامبالاة والاطمئنان، ما دام من عينوه فى منصبه راضين عنه وعن فتاواه، فألقى فتواه هذه المرة صريحة لا لبس فيها، ولم نجده كالعادة يحاول تصليح خطأه، فيصدر فتوى مضادة، أو بيانا يلطف فيه من وقع كلماته هذه، رغم الاعتراضات الشديدة التى واجهها من علماء الأزهر ومن رابطة علماء فلسطين، التى أصدرت بيانا اعتبرت فيه الفتوى "موالاة للكافر الغاصب، وموالاة الكافر لا تجوز فى الإسلام ..."، وقالت إنها أى الرابطة كانت تنتظر من الشيخ فتوى أخرى "يدعو فيها إلى تجنيد الجيوش لطرد اليهود من باقى أرض فلسطين الحبيبة ..."! والعجيب فى فتوى الشيخ أنه أصدرها متبرعا، دون أن تُطلب منه أو يُكره عليها، فيومها كان الرجل يشارك فى احتفال محافظة الشرقية بعيدها القومى، وكان من الممكن ألا ينزلق لهذا المنحدر، لو أراد .. ولكنه فعلها! (2) فتوى تحرم العمليات الاستشهادية فى نوفمبر 2003، ولم تكن انتفاضة الأقصى قد خمدت بعد، قرر سيد طنطاوى أن يقول رأيه فى العمليات الاستشهادية، واختار المكان المناسب لذلك من وجهة نظره، وهو التليفزيون الإسرائيلى، وفى اللقاء أكد الشيخ بهدوء يحسد عليه أن العمليات الاستشهادية التى يقوم بها المقاومون فى فلسطين، هى فى حقيقتها عمليات انتحارية تعارض أحكام الإسلام، وأن من يقوم بها يُعامَل فى الآخرة معاملة المنتحر، أى يكون من أهل النار، وندد الشيخ كذلك بمن يدعون لتلك العمليات، لأنهم فى رأيه يهددون الاستقرار ويشعلون الصراعات فى المنطقة العربية. وكالعادة لم يبال الشيخ بالبيان الذى أصدره 28 عالما أزهريا، على رأسهم مفتى الجمهورية، يتبرءون فيه من تصريحاته، ويؤكدون فيه على مشروعية العمليات الاستشهادية، وأن الجهاد فرض على المسلمين ضد أعدائهم، كما لم يبال بحزن الأمهات الفلسطينيات على أبنائهن الشهداء، الذين وصفهم الشيخ ب"المنتحرين"، وجعلهم فى النار، ولم تقلقه فرحة الإسرائيليين بالفتوى، وتمنيهم أن ترحمهم من رعب العمليات الاستشهادية!! (3) وإحنا مالنا بحصار غزة! حين ضُبط طنطاوى متلبسا بمصافحة رئيس العدو الصهيونى شيمون بيريز فى نيويورك فى نوفمبر الماضى، وانقلب عليه الرأى العام فى وقت كانت فيه غزة تحت الحصار، حاول "الإمام الأكبر" التنصل من الأمر كله فى البداية، وإنكار المصافحة، وحين استضافه عمرو الليثى فى برنامجه "اختراق" عبر الهاتف، كان الرجل عنيفا وثائرا، وحين سأله عمرو عن موقفه من حصار غزة، قال الرجل كلمات اضطرت الرقابة لحذفها، من قبيل : "حصار إيه وقرف إيه؟ وإحنا مالنا" .. "لا أعلم أن هناك حصاراً على غزة "، ورغم أن ذلك النهج والتصرف لا يليق بمقام العلماء، خاصة بمن يرأس مؤسسة الأزهر، فإن جهل الرجل بحصار غزة، حقيقة أو ادعاء، كان أشد وأنكى على الأمة العربية والإسلامية، وقوله "إحنا مالنا" كان تأكيدا للنهج الأمريكى الإسرائيلى فى فصل مصر عن واجباتها العربية والإسلامية، وجعل القضية الفلسطينية شأنا داخليا للفلسطينيين وحدهم، بغياب البعد العربى والإسلامى عنها، وهذا ما تريده إسرائيل وتسعى إليه!! (4) دعوة نتنياهو لزيارة الأزهر فى وقت نجد فيه نقابة الممثلين المصرية، كغيرها من النقابات المهنية، تحرم التطبيع مع العدو الصهيونى بكافة الصور ومن بينها اللقاءات المباشرة مع إسرائيليين، أو المشاركة فى مهرجانات تشارك فيها إسرائيل، ولا يجرؤ نقيبها على مقابلة أى شخصية إسرائيلية فى أى محفل فنى، نجد شيخنا طنطاوى لا يتردد فى المشاركة فى مؤتمرات حوار الأديان التى تضم الحاخامات الإسرائيليين، ولا يتردد فى مصافحة الرئيس الإسرائيلى بيريز بكلتا يديه وبحرارة ومودة صادقة، ولا يتردد فى استقبال كبير الحاخامات الإسرائيليين فى مشيحة الأزهر فى منتصف التسعينيات، ومن بعده يستقبل السفير الإسرائيلى، ولا يتردد منذ أيام فى الجلوس مع بيريز على منصة واحدة، فى مؤتمر حوار الأديان الأخير فى كازاخستان، وكأن الإمام الأكبر، أقل إحساسا بالقضية الفلسطينية من أى ممثل يلتزم بقرارات نقابته، ويرفض لقاء الإسرائيليين ومجرد مصافحتهم!! ويبدو أن الشيخ بعد لقائه مع بيريز والضجة التى ثارت، رأى أنه لا جدوى من الإنكار، وقرر أن يتمادى فى التطبيع دون حياء أو مراعاة لمشاعر العرب والمسلمين، فقال إن مكتبه مفتوح أمام أى يهودى يرغب فى زيارته، وإنه لا يمانع فى استقبال الرئيس الإسرائيلى أو رئيس وزرائه فى الأزهر (كان الكلام أيام أولمرت ولكن الدعوة مازالت مفتوحة لنتنياهو)، وإنه مستعد لزيارة القدس كما فعل السادات، تحت المظلة الإسرائيلية!! (5) ألهذا يدافع عن السادات بحرارة؟ ترى ما هو سر دفاع سيد طنطاوى عن الرئيس السادات بهذه الحرارة والتفانى ؟ .. حين أثيرت قضية فيلم "إعدام فرعون" الفيلم الإيرانى الذى يتحدث عن قتل السادات سارع الشيخ لوصف السادات ب"الشهيد"، وقال إن حرب أكتوبر تكفى لتكفر عنه كل ذنوبه، وحين سئل فى الجلسة نفسها عن رأيه فى قضية اعتقال الرئيس السودانى، قال فضيلته إنه لا يتدخل فى السياسة!! ولم تكن المرة الأولى التى يدافع فيها الشيخ عن السادات، ولم تكن الأخيرة (لاحظ أنه لم يذكر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بأى دفاع أو مدح، السادات وحسب)، ففى مؤتمر حوار الأديان الأخير فى كازاخستان، حرص الشيخ على توجيه كلمة للوفد الإيرانى وصف فيها السادات ب :"فلتة القرن العشرين"، داعيا لرفع اسم قاتل السادات (خالد الإسلامبولي) من أكبر شوارع طهران، وإلى احترام الصحابة وعدم سبهم، أى أنه ساوى بين موقف إيران من الرئيس السابق وموقفها من صحابة رسول الله (رضوان الله عليهم جميعا)!! كما سبق للشيخ أن جعل رفع اسم الإسلامبولى، وحرق فيلم إعدام فرعون، شرطين أساسيين ليقوم فضيلته بزيارة إيران، وافتتاح فرع للأزهر بها!! لهذه الدرجة يحب الشيخ طنطاوى السادات، ويسير على خطاه فى مصالحة الإسرائيليين، والاعتراف بدولتهم المحتلة!! ولعل هذا ما جعل المحامى طلعت السادات، ابن أخى أنور السادات وصاحب العلاقات القوية مع الإسرائيليين، يسارع لرد الجميل للشيخ، والتضامن معه فى موقفه من قضية المصافحة، والدفاع عنه بحرارة مماثلة، فكلا الرجلين فى خندق واحد.. خندق التطبيع وصداقة إسرائيل!!