على رأس الدائرة تجلس مها متولي بوجهها البشوش وأنفاسها الهادئة. الإضاءة خافتة، أشعة الشمس تغطي كل رقعة من الغرفة على استحياء، ضي الشموع يبرز رحابة الأوجه ولمعان الأعين. تدير المجلس الذي جمع بين أمهات يتشاركن الخبرات ويتحدثن عن معاركهن، لم تكن تعلم مها أن بعد 4 سنوات من معانتها الشخصية مع اكتئاب ما بعد الولادة أنها ستكون الضي الذي ينير حياة الكثير من الأمهات اللاتي يصارعن الاكتئاب في صمت. "دائرة حياة للأمهات" هكذا اختارت مها أن تطلق على الفكرة التي بزغت من رحم المعاناة التي عاشتها مع الاكتئاب، الدعم النفسي الاجتماعي مفهوم جديد تعلمته مها من رحلة التعافي "الشخص اللي مر بتجربة مؤلمة هو أكتر حد يقدر يساعد غيره اللي بيمر بنفس الأزمة"ومن ذلك المنطلق أطلقت المبادرة التي تهدف لتقديم الدعم النفسي للأمهات اللاتي يعانين من اكتئاب الحمل والولادة. لم يكن المشوار بيسير على الفتاة صاحبة ال 23 عام التي أيقنت أن الانتفاخ في بطنها نطفة صغيرة التصقت بها إلى الأبد "فجأة حسيت بصدمة ولخبطة.. كنت بعمل كل حاجة وأنا بعيط" الكثير من الاحتراق النفسي والضغط تعرضت له الأم الصغيرة حتى بدأت تعي أنها في حرب غير متكافئة القوة مع وحش الاكتئاب. سرعان ما ذهبت لزوجها الذي لم يكن يعي ما تمر به رفيقة دربه، يربت على كتفها دون أن يفهم مصابها، وبدأ الزوجان في مرحلة الوعي وفهم لجميع الأعراض التي تمر بها مها من غضب وانفعال وبكاء وحزن والابتعاد عن الرفقة والونس. قررت مها أن تهزم الوحش وذهبت لتلقي جلسات العلاج النفسي التي ساعدتها على تجاوز مرحلة الخطر، ظلت تحارب رفقة زوجها للوصول لبر الأمان. بعد أربعة سنوات من العلاج، نجاحات تحمل في طياتها الكثير من الإخفاقات، وصلت لمرحلة الاتزان وقررت بنفسها تلك المرة خوض تجربة الحمل، ولكن بنسخة جديدة من روحها التي شكلها الحزن، وحفر ندوبها الخوف واليأس والشعور بالذنب، ومع تجربة الحمل الثانية كانت أكثر حرصًا على مواصلة جلسات العلاج النفسي لتأمن شر الانتكاسات. على عكس التجربة الأولى شعرت مها أنها بحاجة للتحرر أكثر والانخراط في عالم الأمومة، وبدأت في حضور ورشة "احكي يا نون" التي تقدم الدعم للسيدات والأمهات، في البداية كمشاركة تعبر عن ما في جوفها من حكايات، وجدت في تلك المساحة الآمنة ضوء يشير لها على المواصلة في ذلك الطريق. ومن مُشاركة دؤوبة على حضور جميع اللقاءات إلى مُنَظِمة لورش الحكي " دوري ميسرة يعني بنظم دواير الحكي وهي عبارة عن جلسات دعم للسيدات، برتب اللقاء وأديره وفق قواعد وشروط محددة" لا يحق لأي سيدة الاعتراض على ما تقوله الأخرى، لا وجود للأحكام ولا الحكم والمواعظ، ما يقال في تلك الدائرة يظل داخلها. مجتمع صغير آمن للمشاركة والحكي كأحد سبل العلاج النفسي. المشاعر الإيجابية التي تخرج بها السيدات بعد جلسات الحكي، دفعت مها للتأهل لمساعدة الأمهات والسيدات بشكل احترافي، درست الدعم النفسي الاجتماعي مع الهلال الأحمر، ثم المشورة النفسية، والكثير من الدورات التدريبية عن مفهوم الاضطرابات النفسية وكيفية مساعدة شخص يمر بأزمة، على يد كبار الأطباء والمختصين النفسيين، وبعدها حصلت على زمالة المدمنين المجهولين، لتقديم المساندة لمن مر بتجربة الإدمان. تعلمت مها مفهوم الدعم النفسي الاجتماعي، لمست تأثيره على من يقتحم الاكتئاب دنياه، فبدأت في عمل منهج يساعدها على تدشين دوائر آمنه للأمهات لتقديم المساندة النفسية لهن، وكانت "حياة". جلسات فردية، ومجموعات حكي شهرية والكثير من الأنشطة تقيمها لتساعد المشاركات على التعبير عن ما يؤلمهمن، والحصول على أدوات بسيطة تعينهن للتغلب على مشكلات الحياة "بشتغل تحت إشراف علشان أحمي نفسي وأحمي الناس" فكانت طبيبة مها النفسية هي المرجع للتأكد من قدرتها على تقديم يد العون، وإذا شعرت أن هناك من تحتاج لتدخل الطبيب سرعان ما تكون خيط الوصل. "الحياة مش سهلة وأي حد مر بالاكتئاب وارد ينتكس" لأجل ذلك تحرص مها للحفاظ على سلامتها النفسية وتوازنها من أجل نفسها وصغيريها وزوجها ومن أجل الكثير من الأمهات اللاتي تحرص على مصاحبتهن في رحلة التعافي من سطوة الاكتئاب والكثير من المشكلات الأخرى التي يجلبها الحكي والفضفضة. ما زالت مها تتعلم.. تسقط وتنهض بخبرة وتجربة جديدة، تقرأ الكتب وتخضع للكثير من الورش والدورات التدريبية. "حياة.. بقت نقطة نور في ضلمتي أنا" تتشبث مها بتلك النقطة وتحلم دومًا باليوم الذي يصبح فيه علاج اكتئاب ما بعد الولادة قضية مهمة، أن تحصل جميع الأمهات على الدعم اللازم لهن خلال الحمل وبعد الولادة إلى باقي المسيرة، ليصبحن أقوى وأجدر على تشكيل شخص جديد يتعلم الحياة من خلالهن.
