تصوير - إسلام فاروق: في شوارع طينية، ضيقة، كان العشرات يقفون أمام منازل هُدمت جدرانها بفعل السيل، راحت تفاصيلها من هول المصييبة، فيما وقف أصحابها عاجزين، يتساءلون في حيرة عن أي مستقبل دفعته المياه من أعلى جبل إلى حافة هاوية. عصر الأربعاء الماضي، اقتحمت سيول وأمطار غزيرة، عزبة سعيد بقرية المعابدة التابعة لمركز أبنوب بمحافظة أسيوط، تنحدر من أعلى الجبل الشرقي، الذي يحيط بعدد من المنازل بالقرية، ما سبب ذعرًا للمواطنين، وهدم جدرانًا من البيوت الواقعة في حضن الجبل. كانت الأمطار تهطل بغزارة، من عدة مخرات بالجبل الشرقي، عندما وقف بكر أمين أمام منزل أسرته، يضع حجرًا فوق الآخر، ليمنع دخول مزيد من المياه إلى فناءه، لكن اندفاع المياه من أعلى الجبل الشرقي إلى شوارع العزبة المُطلة عليه من كل اتجاه، غلبت الشاب، كسرت باب المنزل الذي كان مغلقًا، فيما دفعته إلى الداخل، غطت جسمه كله بالمياه، التي تعدى ارتفاعها في تلك اللحظة حوالي المترين، حسبما يحكي. حاول "بكر" أن يتغلب على اندفاع السيول، ظل يعوم في المياه، كأن صالة منزله تحولت بحرًا، فيما ظلت أمه وأطفاله يصرخون، يطلبون النجدة، ليندفع عمه ياسر تاركًا بقالته عرضة للغرق، اقتحم المنزل من الخلف، هدم سورًا منه بمساعدة جيرانه، عله يكون نجاة لسيدة وثلاثة أطفال بالداخل، مّد إليهم يد المساعدة، أخرجهم من المنزل الذي سبح في المياه، فيما لحق بهم بكر الذي نجى بنفسه من الموت غرقًا. اطمأن "ياسر" على أفراد أسرته، ثم جرى إلى بقالته، ورغم أن هذا لم يتعد دقائق معدودة، وجد المياه غمرت محله بالكامل، تلفت كل بضاعته، مصدر رزقه الوحيد وهو يعاني ألمًا في الظهر، به لا يقوى على "العتالة" كما كان يفعل في الماضي، بينما مست الحسرة قلبه. لم يكن هذا حال أسرة أمين وحدها، اختلفت التفاصيل في كل بيوت المعابدة، لكن الألم واحد. بمجرد أن غزت المياة منزل محمد حسن، الذي يأوي 47 فردًا، هرول الرجال لنجدة النساء والأطفال، فيما اندفع الشاب نحو جدّته، سيدة يتعدى عمرها المئة عام، راح إلى مرقدها، حملها على كتفيه، وراح يجري بها خارج المنزل، إلى نقطة في الجبل، لم تصل لها المياه. لم يختلف الأمر في الشارع، كانت المياه ترتفع عن سطح الأرض بما يكفي لإغراق الإنسان، الطيور والحيوان. من نقطة عالية بالجبل، تطل على الشارع، شاهد محمود ثابت، سِرب من أغنام عائمة، حوالي عشرين حسب كلامه، أغلبهم مات غرقًا، فيما أحسّ العطف تجاه أحدهم، ما زالت تتمسك بالحياة، أحس أنها تبكي، تصرخ، وتطلب منه النجاة، لينزل من مكانه باتجاه المياه، عام نحوها، أخرجها، إلى يابسة تمدها بحياة أخرى. بعد أن هدأت السيول؛ بدأ سكان القرية يدركون حجم المصيبة، كانت الطيور نافقة أعلى المياه، المواشي كذلك، دخلت والدة أمين إلى منزلها، لتجد أنهها فقدت 15 زوج من الحمام، 4 من الماعز، ضاع خاتمها الذهبي، عطلت بعض أدوات المنزل الكهربائية، وفقد الابن أدواته للنجارة، مصدر رزقه الوحيد، كانت الخسارة مهولة، إذا قورنت بما تمتلكه الأسرة من إمكانات، أيضًا فقدت عائلة حسن حوالي 80 شوالًا من الذرة، قال إنه مضطر الآن إلى سداد ديون تصل إلى 60 ألف جنيه. بالقرب من منزل محمد أمين، افترش سيد علي الأرض أمام منزله. وعلى بعد أمتار منه كان واحد عن المواطنين يجمع بطاقات هوية للمتضررين، فيما يقدم لهم وعودًا بالحصول على ما يستحقه كلًا منهم. فيما يجلس علي وإخوته الأربعة وزوجاتهم وأولادهم، لم يتحركوا، في انتظار مندوب المحافظة علّه يقدّم لهم تعويضًا، بعدما تهدّم الجزء الخلفي من منزلهم المكون من طابقين. في المنزل الذي يعيش فيه حوالي 37 فردًا، ارتفع منسوب المياه حتى كاد يلامس سقف المنزل، تهدّمت الجدران الداخلية، لتسقط على بعض الماشية والأغنام، ماتت في لحظتها، يقول علي إن هذا أحزنه، لكن ما همّه لحظتها أن ينجو بالأطفال، نجح في ذلك فعلًا، ولحقته شقيقته التي تحمل طرف صناعي في قدمها اليسرى، خرجت وهي تحتضن ابنة أخيها صاحبة العامين ونصف، في النهاية نجوا جميعًا. "معرفناش نطلع بأي حاجة، وواحدة من جيراننا سلفتني هدوم ألبسها عشان البرد، وهنعمل إيه؟، هنستنى وهنشيل الطين ونقعد مكانه"، تقول شقيقة علي. يعيش علي وأشقائه في الشارع أمام منزلهم الذي غرق "في شبر ميه"، في انتظار "فرج ربنا"، كما يقولون. بين الحين والآخر يقدم لهم جيرانهم، غير المتضررين من السيول، ما تيسر من طعام "بيحنوا علينا يجيبولنا براد شاي أو حتى عيش بتاو وجبنة"، فيما تقول شقيقته، إنه في عام 2014 شهدت المنطقة سقوط أمطار شديدة، غير أنها لم تكن مثل سيول الأربعاء الماضي. رغم عدم وفاة أي فرد من أبناء قرية المعابدة، كان للحادثة من الهول الذي دفع ببعض الأهالي إلى المستشفيات. بمجرد أن غزت السيول الشارع، جرت النساء بحثًا عن أطفالهم، وجدوهم في النهاية، لحسن الحظ لم يُصاب أي واحد منهم بأذى، لكن عانت أمهاتهم آثار الخضة، نقلوا إلى المستشفيات لتلقوا العلاج النفسي. أمام منزله المكون من طابقين، وقف محمد أحمد ممسكًا فأسه، يحاول أن يزيل ما خلّفته السيول، التي ما زالت آثارها باقية على جدران المنزل الريفي البسيط، يحكي الرجل عما جرى، فبينما كان يكدح في حقله منذ الصباح الباكر، أتاه الخبر كالصاعقة، هاتفه والده "قالّي السيل خرب الدنيا في الشارع"، ترك الرجل فأسه مهرولًا صوب بيته علّه يُنقذ مَن في البيت، وحين وصل وجد السيول القادمة تجرف كل ما يعترض طريقها "البيت كله باظ، التلاجات والغسالات والتليقزيون وكل شيء.. دي مش سيول.. دي شلالات مياه بتشيل اللي قدامها شيل". فيما تقطع والدته الحديث وترسم صورة أكبر لما جرى "الناس كانت بتسحبني وتحاول تخرّجني من جوه"، فيما تشير إلى أن المنزل "بيت عيلة" يحتضن أولادها الثلاث وزوجاتهم وأحفادها. يعيش محمد حسن في المنزل، الذي ورثه عن أبيه، رفقة والدته وزوجته و3 أطفال، منذ أكثر من 30 عامًا، يعمل الشاب الثلاثيني "باليومية" في سوق البساتين في المعادي، ليس له إلا المنزل الذي تهدم جراء السيول، لا يعرف الشاب من أين يحصل على حقه؟، لكنه ينتظر التعويضات، ربما تحمل له حياة جديدة.