حين قاربت الساعة على الواحدة ظهر الجمعة الماضية، عادت فايزة محمد لقرية الروضة بالعريش، بعد قضاء عدة ليالي مع أهل زوجها في كفر شكر بمحافظة القليوبية. ما إن وضعت السيدة الأربعينية قدمها على الأرض، حتى دبّ فيها الفزع؛ رأت أدخنة متصاعدة، النساء تركض في اتجاه المسجد، فيما تعلو أصوات صراخهن. اضطرب قلبها؛ علمت أن زوجها وابنها في خطر. كان الرابع والعشرين من نوفمبر الجاري يومًا معتادًا. استيقظ سعيد المنجد من النوم باكرًا، أيقظ ولده محمد وتوضأ حتى يلحق بصلاة الجمعة في مسجد الروضة "أبويا راح الجامع بدري، وأنا قولتله هستحمى واجي وراك".. يقولها الابن محمد سعيد. داخل المنزل، سمع محمد صوت طلقات الرصاص بالخارج "أعتقدت أن الجيش بيضرب نار في الهوا.. وأحنا متعودين على ده في العريش"، ارتفع الصوت وزادت حدته؛ فهرول للمسجد ليعرف ما يحدث. على بعد أمتار من مسجد الروضة "لقيت ناس بتضرب نار.. شوفت ناس بتجري وسمعت صوت الرصاص". لم يستوعب الأمر. خُيل له أن المسلحون حضروا لتنفيذ تهديدهم للقرية، بنسف زاوية- مسجد صغير- يتواجد فيها الصوفيون. اقتربت الطلقات من جسد صاحب ال19 عاما، مما اضطره للفرار في طريق العودة إلى منزله. في تلك اللحظة وبينما يركض محمد، عاودته سيرة القرية "اللي طول عمرها هادية". انتقلت إليها عائلة سعيد المنجد منذ 9 سنوات، بعدما اُنتدبت الأم للعمل كممرضة في الوحدة الصحية هُناك، ولأن الأب ذو ال48 عامًا أراد لمّ الشمل، فكان المكوث ونقل مدارس الأبناء محمد، نوال، وضحى، هو الحل، لكن النهاية المأساوية تركت سؤالا في عقل محمد "ليه؟.. أبويا عمل إيه وحش؟.. دة مكانش عايز ييسيب أمي لوحدها". عندما وصل الشاب للمنزل الذي يبعد دقائق عن الجامع، كانت المذبحة مازالت تدور. سألت أخته ضحى عما يحدث بالقرية فطمأنها، فيما تملك الذعر منه خوفًا على حياة والده. 15 دقيقة هي المدة التي انتظرها "لحد الوقت دة كنت بقول بيفجروا الزاوية.. أكيد مش هيقتلوا اللي بيصلوا". فجأة عاد الهدوء. اندفع الشاب مرة أخرى إلى المسجد، وهناك هاله المنظر البشع. جثث تكومت. دماء لونت الأرض. طلقات اخترقت جدران المسجد الإسمنتية. الرجال مقهورون من الصدمة والنسوة تأتين من كل مكان. بحث محمد عن والده "كنت بعدي من فوق الجثث من كترها". تأكد من وفاته "حسيت إني في حلم". لم يعِ الشاب ما يجري "الدم كان مغرقه من كل حتة"، أخرج هاتفه وأبلغ أعمامه بكفر شكر بالواقعة. لم تفهم الزوجة فايزة الفاجعة حتى دخلت المسجد؛ استقبلها الابن "قالت لي أبوك فين.. قولتلها توفى"، جذبها بعيدا عن المشهد، بدا الأمر كالكابوس "أخويا أخد رصاصة في مؤخرة الرأس وشظايا مختلفة في جسمه".. يحكي عوني المنجد. خلال هذه الساعة بكفر شكر، أنهى عوني صلاة الجمعة، متوجها إلى منزل العائلة ليقابل أشقائه، أيمن وخالد ومحمد. دقائق ورنّ الهاتف ليأتي صوت ابن الأخ "ألحقوني أبويا مات"، أراد عوني أن يفهم، سأل في ذهول "مات إزاي يابني؟"، وقبل أن يستفسر عن مزيد من التفاصيل "قولتله مسافة السكة وأبقى عندك". أحضر عوني وأشقاؤه سيارتين ملاكي، انطلقوا إلى مدينة العريش، وفي الطريق اتضحت ملامح الحدث، سمع عوني "واحد راكب عربية ملاكي، بيتكلم في التليفون وبيقول جماعات تكفيرية الله ينتقم منهم موتوا أكتر من 300 واحد"، وصل الأشقاء إلى مستشفى بئر العبد بعد أكثر من 4 ساعات، فيما سهلت لهم قوات الأمن المتمركز بالطريق الدولي العريش- القنطرة عبورهم إلى سيناء. انتقل محمد مع جثة والده بعربة الإسعاف إلى المستشفى، أنجز تصريح الدفن، وانتظر قدوم أعمامه حتى ينقل المتوفى إلى بلدته كفر شكر التي ولد وعاش فيها. بعد ساعات من استشهاد رفيق الروح وعائل المنزل "روحنا البيت لمينا الحاجة ومشينا"، تزوغ عينا الابن كلما يستعيد التفاصيل "أمي لمّت شهادات الميلاد وجرينا"، حين وصلت فايزة للقرية وقت الحادث كان بحوزتها حقيبة ملابسها التي أخذتها من كفر شكر، فعادت بها مرة أخرى. صباح السبت التالي، وقبل أن يدفن الأخوة شقيقهم، أشارت النيابة العامة، في بيان رسمي، إلى بلوغ عدد الضحايا 305 شخص وجرح 128 آخرين، وقالت إن مرتكبي الحادثة أتوا على متن خمس سيارات رباعية الدفع، وعددهم يتراوح ما بين 25 إلى 30 مسلح. وفسر البيان أن المسلحين اتخذوا مواقعهم أمام باب المسجد ونوافذه وعددها 12 نافذة وأطلقوا الأعيرة النارية على المصلين، وأضرموا النار في سياراتهم، وعددها سبع سيارات حتى لا يتمكن الناجون من إسعاف الجرحى. صلى أهل كفر شكر على "شهيدهم" في جامع كبير بالمدينة، كانت جنازة مهيبة، شارك بها الآلاف من أقاربه وجيرانه، وكذلك قيادات المحافظة. 3 أيام مرت على ما حدث، لكن مقاعد العزاء تراصت أمام منزل عائلة المنجد. صوت القرءان صدح من الداخل منخفضًا، لا يحتاج الذاهب للبحث كثيرًا، يكفي سؤال "فين بيت سعيد المنجد؟"، لتأتي الإجابة متبوعة بوصف المكان ثم القول بنبرة حزينة "هو ذنبه إيه بس منهم لله". في داخل البيت عاش الراحل قبل زواجه، وبجانب الباب جلس الأخوة الثلاثة، بينما كانت نسوة الكفر تصعدن الدرج المؤدي لغرفة زوجته لتقديم الواجب، وتكتم بعضهن أنين بكائها. لم تنقطع قدم سعيد عن بيت العائلة. خاصة أن والده تُوفي منذ شهر واحد "وجه قعد معانا أسبوعين ساعتها"، كانت حياة الراحل بسيطة. حصل على دبلوم تجارة، ثم استمر في صنعة والده "التنجيد والأثاث"، وعندما انتقل للروضة حافظ عليها، وبجانبها عمل في مصانع الملاحات لتحسين الدخل. زار الأخوة شقيقهم في منزله بالعريش مرارا، استقبلتهم الطمأنينة دائما "المكان هناك آمن للدرجة إني لو أخاف أتسرق في كفر شكر مخافش هناك" يقول الشقيق أيمن، قبل أن يقاطعه الابن "الناس كانت بتنام وبيوتها مفتوحة محدش يستجري يدخل". منذ الانتقال لم يشعر محمد بالغربة، صار له عُزوة في قرية الروضة، حتى حين التحاقه بالجامعة العام الماضي، قرر اختيار الموجودة في العريش. ظلت الأسرة على عهدها بحب المكان، لكن تهديدات الأشهر الأخيرة جعلتهم يقررون الرحيل "قلنا لما تخلص أختي ضحى 3 إعدادي هننقل السنة الجاية كفر شكر تاني وأمي هترجع التمريض هنا"، يخفض محمد بصره للأرض، ثم يستطرد "بس قدر ربنا نافذ". حتى الآن لم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن الحادث الدموي، فيما تُشير أصابع الاتهام إلى تنظيم ولاية سيناء، المبايع لتنظيم الدولة الإسلامية عام 2014. وفي العام الماضي خرج أحد قيادات تنظيم "داعش" في حوار نشرته مجلة "النبأ" التابعة لهم متوعدا صوفي سيناء، قائلا: "أعلموا أنكم عندنا مشركون كفار، وأن دماءكم عندنا مهدرة، ونقول لكم أننا لن نسمح بوجود زوايا لكم في سيناء". كما ذبح التنظيم، الشيخ سليمان أبو حراز، أحد كبار مشايخ الصوفية في شبه جزيرة سيناء. مازال مستقبل الأبناء غامضا. ما عاد والدهم موجودا ليخططه معهم، تمنّى دوما التحاق ابنه بكلية الطب، غير أن تغير الدفّة لكلية التربية لم يُزعجه، كان يدعم ويؤازر ويقوي ظهر محمد. والآن وبعد موته طلب الأعمام من المحافظ نقل الطالب من جامعة العريش إلى بنها، وكذلك الأخت الصغيرة، والأم إلى مستشفى كفر شكر. لم يعد الابن راغبًا بالعيش في الروضة ولا أخذ متعلقاته، لم يبكِ والده، روحه مُتشبّعة بالصدمة، يشرد كثيرًا، ينظر إلى أمه وأختيه، ولا يدري كيف أصبح فجأة "راجل البيت".