لا يعلم العم سعد محمد مرسي، الذي يعمل "ماسح للأحذية" أسفل محطة السكة الحديد بدشنا، أن العالم والمجتمع الدولي يحتفل اليوم 20 مارس من كل عام بيوم السعادة العالمي، بعد أن اعتمدت الأممالمتحدة في دورتها السادسة والستين هذا اليوم من كل عام يومًا دوليًا للسعادة، اعترافًا بأهمية السعي للسعادة لتحقق التنمية المستدامة والقضاء على الفقر وتوفير الرفاهية لجميع الشعوب. الرجل السبعيني الذي لا يهتم بالمناسبات والأعياد إلا لأنها ستجلب له مزيدًا من "الزبائن" لمسح أحذيتهم وهو ما يضمن بضع جنيهات إضافية، ليعود بها، إلى عشته التي بناها بالبوص وجريد النخيل أسفل شريط السكة الحديد لتؤويه وأطفاله، في ظل حالة الغلاء الشديد الذي لم يمكنه من توفير منزل لهم. معاناة يقول العم سعد إنه تعب من مناداة ومناجاة المسؤولين وأصحاب القلوب الرحيمة، والإعلام بوسائله المقروءة والمسموعة، فآثر الصمت أخيرًا ليكمل هو وزوجته وأطفاله الخمسة، بمراحلهم العمرية المختلفة، ما تبقى من أعوام عمره التي شارفت على الانتهاء، أسفل شريط القطار على ضفاف الترعة التي تعج بالورن والأفاعي، اللذين أصبحا جيران للأسرة، فضلًا عن الأمراض والروائح الكريهة التي يخلفانها، ليصبح هو وأسرته بين مطرقة القطار وسندان ترعة الكلابية بما تحويها من مخاطر قد تنهي حياة أحد أبنائه.
رحلة شقاء يقول سعد إنه منذ صغره وهو يعمل بمهنته كماسح للأحذية في القطارات والشوارع والميادين، ويروي مأساته عندما كان في أحد القطارات يمارس مهنته، وفي أثناء تنقله بين عربات القطار تعرقل وحشرت يده بين إحدى العربات، الأمر الذي سبب له عاهة مستديمة في أصابع يده اليمنى التي يعمل بها، مشيرًا إلى أن مهنة ماسح الأحذية تكاد تتلاشى في ظل اعتماد الغالبية على استعمال علب الورنيش الجاهز. ويروي ماسح الأحذية إحدى المفارقات الغريبة التي صادفها قائلًا: إن باب "العشة" التي بناها بالبوص وسعف النخيل، صنعته له الكلاب الضالة، عندما حفرت لنفسها مدخلا في سور السكة الحديد، لتستطيع العبور للترعة لشرب الماء والنوم بجوارهم، فما كان منه إلا أن قام بتوسيع الحفرة لتسعه هو وأطفاله، مضيفًا: أصبحنا نحن والكلاب شركاء في هذا المدخل، مستهجنا "الكلاب الوحيدة التي قدمت لي خدمة حقيقية في الوقت الذي خذلني فيه الجميع".
وسط الفقر والحرمان ويضيف العجوز قائلا: "رجلي حفيت على المسؤولين للنظر في شكوانا، بس الغلبان صوته بقه مش مسموع" متابعًا بنبرة حملت الكثير من الضيق والوجع: "سكن ينفع لبني آدمين أو مرتب يكفينا عيش حاف، مش بطالب بأكتر من كده". ويسترسل الأب قائلًا: "وجدتني أعول أسرة تتكون من 5 أطفال، حكم عليهم الفقر بالحرمان من أي شيء يحلم به الأطفال، فهم معزولون تمامًا عن العالم ويواجهون خطر الأفاعي والورن، التي تعيش بالترع، والعقارب، دون ماء أو كهرباء أو أدنى مقومات الحياة، خاصة أنهم في منطقة معزولة ومهجورة، مشيرًا إلى أنهم يستظلون من حرارة الشمس ببعض الجريد الذي يغطي مسكنهم البدائي، متهكمًا "وكأنني أعيش في القرون الوسطى"، لافتًا إلى أن أطفاله كادوا أن يلقوا حتفهم عندما سقطت عليهم "نخلة" كانوا يسترون بها عشتهم، وهدمت منزلهم البسيط، ولولا عناية الله لماتوا تحتها. ورغم كل ذلك، لا تكاد الابتسامة تفارق وجه العجوز الذي أنهكته الأيام، حيث لم يمنعه الشقاء من السخرية والتهكم على الواقع ليواجه به الصعاب والظروف التي لم تقف بجواره أبدًا، وربما كانت هذه الابتسامة أو السخرية من الواقع هي السبب الرئيسي ليتمكن من مواصلة حياته وسط كل هذه المخاطر.
مطالب مشروعة بعد مفاوضات مضنية تمكنا من الحديث مع أم محمد، زوجته، التي أعلنت مقاطعتها لجميع وسائل الإعلام والمسؤولين التي قالت إنهم "لا يفون بوعودهم قط"، مشيرة إلى أنها تطالب وللمرة الأخيرة المسؤولين وأصحاب القلوب الرحيمة، بتوفير مسكن لهم حتى يتمتعوا بأدنى معدلات الحياة الكريمة التي يمنون أنفسهم بها، مشيرة إلى أن مهنة الزوج لا تقوى في كثير من الأحيان على تحمل نفقات الأسرة، لافتة إلى أن الزوج رفض أن يحرم أبناءه من التعليم، رغم الظروف المعيشية الصعبة التي يعانون منها. تتمنى أم محمد لأولادها مستقبلا أفضل، خاصة أنهم لم يستمتعوا بطفولتهم وسط هذه الحياة الصعبة، مطالبة بتوفير غرفة تجمع أسرتها بعيدا عن هذه المخاطر التي يتعرضون لها يوميًا.
مطاردة الكوبرا يروي العم سعد أنه تمكن قبل عدة أشهر من التخلص من أفعى ضخمة كانت تطارده وأسرته، وكادت أن تفتك بهم، انتقامًا منهم بعدما قتلت زوجته وليفة الأفعى التي ظلت تطاردهم، مرارًا وتكرارًا وحاولت طردهم من العشة التي يقطنون بها. يشير ماسح الأحذية العجوز أنه وضع الثعبان الضخم الذي وصفه بشبيهة أفاعي "الأناكوندا" التي يشاهدها في التلفزيون، بداخل كرتونة كبيرة بعد قتلها، وذهب بها لرئيس مدينة دشنا، ليظهر له حجم المخاطر التي يتعرض لها وأسرته، مضيفًا: رئيس المدينة السابق وعدني بأني سأتسلم شقة سكنية من المحافظة خلال أيام قليلة، ومرت الأيام والشهور بدون أن تتحقق مطالبه رغم تقدمه بعدة طلبات لمحافظ قنا ومجلس مدينة دشنا بشأن توفير شقة سكنية لأسرته البسيطة المكونة من ولدين وبنتين، واحدة منهن أصبحت على مشارف سن الزواج، متابعًا: في كل مرة أتلقى وعود بشأن الحصول على مسكن ولكن هذه الوعود تتبخر في اليوم الثاني لأبدأ البحث مجددًا على حلمي في العثور على شقة. وعود كانت "ولاد البلد" خاطبت مجلس مدينة دشنا، لبحث مسكن لأسرة الرجل، وأكد بسام عزام، رئيس مدينة دشنا السابق، إنه خاطب اللواء عبد الحميد الهجان، محافظ قنا، بشأن الموافقة على حصول سعد مرسي لشقة سكنية من ضمن العقارات التي تقوم بإنشائها المحافظة. وأكد على أنه تمت الموافقة بشكل نهائي على تسليم العم سعد وحدة سكنية، مشيرًا إلى أنه ستتم إجراءات التسليم خلال أيام قليلة، بعد الانتهاء من بعض الإجراءات الروتينية، ورغم تغيير رئيس المدينة ومرور عدة أشهر تغيرت خلالها وزارات عدة مرات وقف الروتين حائلاً أمام تنفيذ حلم الرجل السبعيني، في منزل يؤويه وأسرته.