بدا الشارع المصرى أقرب للشعور بالتفاؤل حيال امكانية حل ازمة الجمعية التأسيسية للدستور الجديد على قاعدة التوافق الوطنى فى ظل قرار للقضاء الشامخ بعد ايام حرجة طالت فيها المخاوف ثورة 25 يناير ذاتها وامكانية استكمال اهدافها. وكانت محكمة القضاء الادارى بمجلس الدولة قد قضت، الثلاثاء، بوقف تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور فيما بدت لحظة اصدار الحكم منطلقا تاريخيا صنعه قضاء مصر الشامخ لعبور الأزمة حول تشكيل هذه الجمعية من خلال التوافق الوطنى. ووسط حالة من الارتياح الملحوظ سواء على مستوى الشارع المصرى او القوى السياسية والأحزاب - تتبلور حالة من الاتفاق العام على ضرورة اعادة النظر فى تشكيل الجمعية التأسيسية احتراما لسيادة القانون واعلاء للمصلحة الوطنية العليا وارادة شعب مصر واستكمال عملية تنفيذ اهداف ثورة 25 يناير. وفى سياق ترحيبه بقرار القضاء الادارى ببطلان تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور-كان المجلس الاستشارى قد طالب باعلان دستورى "يتضمن معايير لاختيار الجمعية التأسيسية الجديدة ليتم تشكيلها بطريقة تضمن تمثيل كافة فئات المجتمع دون استئثار اى فصيل عليها". واقترح المجلس تعديل المادة 60 من الاعلان الدستورى الحالى وصولا لهذه الغاية فيما اتجهت اراء عديدة للتأكيد على اهمية البحث عن حل سياسى للأزمة الأخيرة على قاعدة التوافق الوطنى . وتتوالى الدعوات "من كل الاتجاهات لأن تجلس جميع القوى الوطنية معا للوصول الى افضل حل لأزمة الجمعية التأسيسية" وان "مصر فى حاجة للجميع والى وضع دستور يرسس للدولة الديمقراطية الحديثة ويمهد للنهضة المرجوة". وكانت نقابة الصحفيين قد انسحبت ضمن قوى ومكونات وطنية من الجمعية التأسيسية للدستور منوهة بأنها استرشدت فى قراراها بموقف الأزهر الشريف والكنيسة المصرية حيال هذه الجمعية بتشكيلها الحالى. واكد مجمع البحوث الاسلامية بالأزهر الشريف تمسكه بقراره بعدم المشاركة فى الجمعية التأسيسية بوضعها الحالى لعدم التمثيل المناسب للأزهر بمكانته الدينية والعلمية. واتخذت مسألة الجمعية التأسيسية لاعداد الدستور الجديد طابع الأزمة بعد انسحاب عدد يعتد به من الأعضاء وممثلى الكيانات الهامة احتجاجا على اسلوب تشكيل هذه الجمعية وعدم تمثيلها للمجتمع المصرى تمثيلا سليما وغياب العديد من الكفاءات عنها. ووسط شعور مجتمعى عميق بأن هناك حاجة ماسة لاعادة النظر فى مسألة تشكيل الجمعية التأسيسية جاء القرار القضائى ليفسح المجال تحت مظلة سيادة القانون لانهاء الأزمة بصورة كريمة ومشرفة وديمقراطية. واثارت الأزمة الأخيرة تساؤلات حول معنى الديمقراطية فى الواقع العملى بقدر مالفتت لأهمية التوافق الوطنى حيال القضايا الكبرى والمصيرية مع التسليم بأنه لايوجد نظام سياسى واحد فى العالم وتجارب الانسانية قد بلغ مرحلة الكمال المطلق، كما انه لاتوجد ثورة فى تاريخ العالم قد افلتت من قدر من الغموض والارتباك قبل ان تبادر بتصحيح اى اخطاء والاستجابة الصحيحة للتحديات. ولاجدال فى ان الديمقراطية بحاجة لقوى تؤمن بالديمقراطية حتى تبنى وتستقر بعيدة عن الضبابية وتشتيت المجتمع وبعثرة قواه الحية كما انها تتطلب احترام كل القوى والأطراف لشروط اللعبة من احتكام لانتخابات نزيهة وتداول سلمى للسلطة وقبول ارادة الناخبين ايا كان رأى البعض فى نتائج صندوق الانتخابات مادامت هذه الانتخابات قد اجريت بحرية وعدالة ونزاهة. فالديمقراطية - كما يتفق علماء السياسة - هى نظام يستبدل احتمالات الصراع العنيف على السلطة بصراع سلمى اساسه الاحتكام لارادة الشعب واختياره الحر عبر صناديق الانتخابات التى تجرى بصورة دورية مع ضمان حرية الاعلام واحترام الحريات وحقوق الانسان. ويتفق فقهاء القانون الدستورى على ان الدستور "وثيقة سامية تعلو كل السلطات وتستمد قوتها من الارادة الشعبية وليست من صنع اغلبية حزبية" ويتعين ان يكون اعداد الدستور "من خلال جمعية تأسيسية تمثل جميع طوائف المجتمع بقواعد موضوعية مجردة وبعلماء وخبراء محايدين بعيدا عن التحزب". وكما اوضح الكاتب والمحلل السياسى البارز فى جريدة "الاهرام" الدكتور اسامة الغزالى حرب فان "الدستور بحكم طبيعته واهميته لابد وان تضعه الأمة كلها من خلال هيئة تضم ممثلين لكل فئات الشعب اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وسياسيا واقليميا بلا اى اقصاء او تمييز". ولذلك فان تشكيل هذه الهيئة-كما يقول اسامة الغزالى-امر فى غاية الأهمية والحساسية وينبغى ان يكون حائزا على رضاء الجميع بأقصى درجة ممكنة وتلك مسألة تختلف عن اختيار الشعب لممثليه فى الانتخابات العامة لعضوية البرلمان . وفى المقابل فانه لايوجد فى قاموس الصراع الديمقراطى المشروع مايسمى بامكانية التنازل عن الحقوق التى تمنحها صناديق الانتخابات لطرف او فصيل سياسى او حزب ما ففى الديمقراطية من حق الفائز ان يحكم ومن حق الخاسر ان يعارض ويتطلع للفوز فى الانتخابات التالية بارادة الشعب وحده. غير ان العرف السياسى والتقاليد التاريخية والخبرات الدستورية فى ديمقراطيات عريقة تؤكد على انه يتوجب عند صياغة الدستور الا يهيمن حزب او طرف او فريق ما على بقية الأطراف والقوى السياسية والأطياف المجتمعية ويفرض رؤيته وحدها. فالدستور للوطن كله وللشعب بأكمله وللمجتمع بكل مكوناته واطيافه ولأجيال قادمة وهو الذى يوجد سلطات الدولة ويحدد اختصاصاتها و بهذا المعنى فهو يسمو فوق اى مكاسب سياسية لطرف بعينه كما انه بالضرورة يعلو فوق اى خلافات وصراعات سياسية حتى لو كانت ذات طابع ديمقراطى. واذا طرح السؤال :"هل يضع البرلمان - الذى يقوم بوظائف التشريع والرقابة- الدستور ايضا"؟-يقول الدكتور اسامة الغزالى حرب ان الاجابة المنطقية التى كررتها الغالبية العظمى من الفقهاء الدستوريين هى ان الدستور هو الذى ينشىء البرلمان وبالتالى فلا يتصور ان يضع البرلمان الدستور. واضاف :وفضلا عن ذلك فان البرلمان فى البلاد الديمقراطية يفترض اما ان يغلب على تشكيله حزب حاكم قوى او تتعدد الأحزاب المتنافسة فيه وفى جميع تلك الحالات يقصر عن تمثيل كل قوى المجتمع بكل مكوناتها ولذلك وفى الحالات التى يبدو فيها وكأن البرلمان هو الذى يضع الدستور انما هى تلك التى يكون فيها فى شكل هيئة تأسيسية خالية من اى تحزبات او انقسامات حزبية تنطوى على اقلية واغلبية بأى معيار". ومن ثم خلص الدكتوراسامة الغزالى حرب الى ضرورة حل اللجنة التأسيسية للدستور واعادة تشكيل لجنة صياغة الدستور المصرى بما يتناسب مع جلال المهمة ومع تاريخ مصر الدستورى وثروتها الغنية من الكفاءات القانونية ومع خبرات الديمقراطيات المستقرة فى العالم. وتسببت ازمة الجمعية التأسيسية الى جانب قضية الانتخابات الرئاسية فى تداعيات حدت بالدكتور محمد السعيد ادريس الباحث والكاتب والبرلمانى البارز للقول بأن "الثورة فى خطر" وان "هذه هى محصلة مااستطاع تجميعه من افكار واستخلاصات منذ ان تفجرت ازمة الجمعية التأسيسية للدستور" فيما اكد على ان "الشعب وحده هو المعنى وهو المسؤول عن حماية ثورته". وسيكون من قبيل التزيد وانكارالحقائق التعتيم على مشاعر بدت واضحة فى الشارع المصرى وهى تتخوف من امكانية اجهاض ثورة 25 يناير والاخفاق الديمقراطى فيما تتجلى وطنية رجل الشارع فى تمسكه فى الوقت ذاته بضرورة الحفاظ على الدولة ورفض دعاوى المراهقة الثورية التى اوغلت فى تصورات فوضية ناهيك عن مؤامرات القوى الخارجية التى يهمها ضرب الدور الحضارى والقومى لمصر وامكانات نهضتها بعد ثورتها الشعبية. من هنا فان الديمقراطية والحرية والكرامة والعدالة لن تكتسب مضمونها الفاعل الا باستقرار مجتمعى ونمو اقتصادى واذا كانت الظنون قد استبدت بالبعض متصورا انه يمكن طى صفحة ثورة 25 يناير او تحويل معركة الانتخابات الرئاسية الى فرصة لاعادة انتاج الفوضى فقد خابت الظنون. فهذه الثورة لم تكن ابدا جملة اعتراضية فى تاريخ مصر.. إنها صوت الشعب وفعله.. وشعب مصر وحده هو القادر على حماية ثورته بعيدا عن مهالك الفوضى وادمان المزايدات واوهام اعادة عجلة التاريخ للوراء. اقرأ ايضا : حزب الجبهة الديمقراطية يعلن انسحابه من الجمعية التأسيسية للدستور