(1) فى أكتوبر 98، قررت (مع نفسى) أن أزور قبر سليمان خاطر لأقرأ له الفاتحة. زيارة تحولت لتحقيق صحفى كان له فضل كبير فى دعم خطواتى الأولى فى عالم الصحافة. كان خاطر علامة استفهام كبيرة فى طفولتى عندما كانت تروى حكايته كجندى مصرى على الحدود قتل وأصاب سبعة إسرائيليين، وتم تحويله للمحاكمة، واستيقظت مصر كلها فى يوم على خبر انتحاره فى زنزانته. اتجهت إلى الزقازيق، وهناك لم أجد صعوبة فى الوصول إلى منزله، فالجميع يعرفونه، من الزقازيق وحتى قريته التى تبعد عنها أكثر من 40 كيلومترا. (2) أمام بيته يوجد مصنع بلاط وضع فوقه لافتة كبيرة كتب عليها «مصنع بلاط الشهيد سليمان خاطر».. تذكرت هذه الجملة بعد سنوات وأنا أمشى فى شوارع العاصمة الإيرانية طهران، لأجد نفسى فجأة أقف أمام لافتة كبيرة مكتوب عليها «خيابان شهيد سليمان خاطر».. خيابان بالفارسية تعنى «شارع». كنت أقف تماما فى منتصف واحد من أجمل شوارع طهران يحمل اسم خاطر، وددت وقتها أن أصافح كل من يعبرونه لأقول لهم «أنا بلديات هذا الرجل». دخلت أسأل عن أهله، فقابلنى صديق عمره وزوج شقيقته اسمه أحمد العوضى، قال لى بعد أن قدم لى الشاى «العائلة لا تتحدث إلى الصحافة منذ توفى سليمان»، قلت له: وأنا أقسم لك إنى قادم لزيارته وقراءة الفاتحة على روحه.. انس أنى صحفى، لفنا الصمت لثوانٍ قبل أن يدخل علينا الحاج عبد المنعم خاطر شقيق سليمان الأكبر، قلت له الكلام نفسه فقال «بس أنا عايز أتكلم». (3) كان سليمان فلاحا بسيطا فى غاية التواضع محبا لأشقائه وأهل بلدته وكان شقيقه الأكبر يعمل فى الكويت، وبعد أن تحسنت ظروف الأسرة قليلا قرر سليمان أن يسافر ليعمل معه هناك، كان سليمان لا يزال طالبا فى كلية الحقوق، فقرر أن يضرب عصفورين بحجر، وأن يتقدم للجيش لتأدية الخدمة العسكرية حتى يتمكن من السفر.. قرر أن يتقدم لها بصفته حاصلا على الثانوية العامة، على أن يقوم بالمذاكرة والحصول على المؤهل الجامعى فى أثناء وجوده بالخدمة، وبذلك يختصر وقتا طويلا فى سبيل السفر. فى البداية تم تجنيده فى مخابرات الاستطلاع، ثم تم نقله إلى قوات الأمن المركزى فى سيناء. كان سليمان -والكلام لصديق عمره- يتعامل مع الجيش بقدسية شديدة، كان يدهشنى، وأنا ضابط سابق بالجيش، بالطريقة التى يعتنى بها بسلاحه، كان يحفظ رقم سلاحه مثل اسمه وكانت لديه القدرة على فكه وتنظيمه وإعادة تركيبه عدة مرات فى وقت قياسى. (4) علاقة سليمان بالجيش بدأت قبل تجنيده بكثير.. بيت سليمان يبتعد كيلومترات قليلة عن مدرسة بحر البقر. يوم قصف الطيران الإسرائيلى لهذه المدرسة ذهب هو وصديقه وكانا طفلين إلى موقع القصف وساعدا فى انتشال جثث الأطفال -الذين كانوا فى مثل عمرهما- من تحت الأنقاض. المسافة ما بين بيت سليمان وبحر البقر تحولت فى ما بعد إلى معسكرات تابعة للجيش، وكانت متعة سليمان الأولى فى طفولته أن يقف يوميا على الجسر ليتابع الجنود فى طريقهم من الإسماعيلية إلى المعسكرات أو العكس. كانت أمه تخبز وتجهز القشدة والجبنة وتقف على الجسر وسليمان إلى جوارها يستوقفان الجنود فى ذهابهم أو إيابهم ليوزعا عليهم الطعام.. كان يسألهم بالاسم عن أقاربه الكبار الموجودين على الجبهة فكانوا يبتسمون له دائما قائلين «جايين ورانا». (5) مهارة سليمان والتزامه كانا كافيين ليصبح حكمدار نقطة الحراسة على الحدود.. إلى أن جاءت الليلة التى انشغل فيها بقية أفراد الخدمة فى إحضار التعيين (طعام العشاء)... ونما إلى أسماعهم من بعيد صوت يشق سكون الصحراء.. كان صوت شخص ما يشد أجزاء سلاحه الآلى.