ذهبت إلى ميدان التحرير أضع مجسات عقلى وقلبى على ما يحدث هناك. فى المشهد تغييرات جوهرية. لم يعد الثوار وحدهم، تدافعت موجات بشرية جديدة قادمة من خزين الألم والقهر والفقر والعشوائيات والبطالة وإهدار الآدمية وأبسط حقوق الحياة. من يقول إن من فى الميدان ليس كلهم من الثوار لا يستطيع أن ينكر أن كلهم من المصريين. إنذارات ثورة أعنف وأخطر.. آلاف فقط حتى الآن يزحفون إلى القاهرة قادمين من جحور العشوائيات ووقائع الحياة اللا إنسانية واللا آدمية التى دفنهم فيها النظام الذى أسقطه الثوار. ستة أشهر مضت ولم يبل النظام الجديد ريقهم ولا خفف معاناتهم ولا بشّرهم بأمل فى حياة أفضل. لا يقولون إن التغيير يجب أن يحدث بين يوم وليلة، ولكن لا سمعوا ولا رأوا مؤشرات خطط واقعية لتخفيف معاناتهم.. لا جنيه واحدا استرد، ولا أراضى منهوبة استعيدت.. صيحات بضرورة تطبيق القانون على من داسوا القوانين بأحذيتهم وجعلوا مصر دولة بلا قانون. البلطجية الذين أُطلقوا على المصريين وعلى الثورة لإنهاكها والقضاء عليها كانوا الامتداد والورثة لبلطجة النظام الساقط على الشعب. كل ما حدث كان محاكمات لأشباح خفية فى قضايا لا تستوفى أوراقها رغم وضوح الأدلة والبراهين وضوح الشمس.. جرائم إبادة وتجريف وطن تتوارى وراء محاكمات عسكرية للمدنيين وللمتحرشين وللترويع بالأسلحة كأنه لا يوجد فى قانون العقوبات ما يكفى ويزيد! ستة أشهر ولم يتم القصاص لدماء الشهداء، بل عاد التشكيك مرة ثانية فى وجود أسلحة القناصة كأنه تلميح من بعيد إلى ادعاءات الأجندات الخارجية. ميدان التحرير تتدفق عليه الآن موجات بشر من حصاد التجريف والتجويع والإفقار والاستذلال والمرض والبطالة.. ليس أمامهم ولا وراءهم ما يتمسكون بالحياة من أجله ولا يجدون علامة واحدة حتى الآن لسفينة إنقاذ أو طوق نجاة ينطلق بهم. كثيرون يحسون أن المشهد ما زال واحدا قبل الثورة وبعدها، انضم إليه مجموعة من المتحولين الذين أطلقوا البخور للنظام القديم ويطلقون الآن البخور للتغيير الذى لم يحدث. فى ميدان التحرير يزيد الغضب اشتعالا عزلة وابتعاد وغموض مواقف وقرارات وبيانات المجلس الأعلى كأنهم فى جزيرة بعيدة عن الشعب الذى سلمهم أمانة وثقة إدارة انتقال الحكم سلميا إلى المصريين، فاختاروا أن يكونوا مجلس تسيير أعمال وليس مجلس إدارة وتفعيل ثورة، وفضلوا أن يظلوا بعيدا وأن يتواصلوا إلكترونيا مع جماهير تنعزل جموعها الغالبة وراء أسوار الفقر والأمية، وتعاملوا مع خطايا وجرائم الأمس بخجل واستحياء وكأنهم يعتذرون للصوص والقتلة لسخف المصريين وإصرارهم على محاكمات جادة تستوفى أركانها ولا يكون للمحققين فيها روابط برؤوس النظام الساقط. نشرت «الأهرام» 18 يوليو هذا العنوان (وثيقة.. المستشار المكلف بالتحقيق مع مبارك عمل مستشارا ل«مصر للطيران» خلال وزارة شفيق)! متى ينهى القضاء المستقل المحترم مهزلة اختراق سيادة القانون بتوظيف واستخدام بعض رجاله فى مؤسسات الدولة؟! من صاحب خير وشرف ووطنية وغيرة على هذا الوطن وعلى هذه الثورة العظيمة لا يطير عقله ويثير عشرات علامات الاستفهام من غرائب ما فى المشهد السياسى من وقائع خلاصتها الاستهانة بدم الشهيد وكل ما ارتكب من جرائم سياسية واجتماعية واقتصادية لإبادة شعب وتدليل المجرمين والقتلة؟ ولماذا يظل استكمال وتمكين الثورة مشروعا متعثرا.. هل هو ضعف فى القدرة والإدارة السياسية، أم ترتيب أوضاع تستطيع تطبيع وتدجين وترويض الثورة وقص أطرافها وأجنحتها وحفظها فى تابوت وقراءة الفاتحة عليها؟ كل مصرى فى ميدان التحرير قصة ألم مدهشة، كأن لم تكن هناك مهمة للنظام الساقط إلا أن يعذب هذا الشعب.. الثورة عندهم علامات وتحولات وإجراءات تعنى استرداد الكرامة والسيادة والملكية فى الوطن، تعنى ثغرات وبوابات للأمل، ليس ضروريا أن يعبروا على الفور، وهم لا يطالبون بهذا على الإطلاق، ولكن أن يطمئنوا، أن يصدقوا، أن تلمس أيديهم، أن يشاهدوا بدايات حقيقية للتغيير، يريدون لجانا من الثوار والشخصيات المحترمة فى مختلف محافظات مصر ممن لم يشاركوا فى صناعة الفساد القديم تدير أوسع مشروع قومى لتطهير المحليات. بين الأوراق التى دسها المعتصمون فى يدى هذه السطور «تم تعيين عمدة كان أمين الحزب الوطنى وعضو المجلس المحلى لمركز شبين القناطر بقرية كفر شبين يوم 29/5/2011 يستعمل الآن الكرباج فى ضرب الشباب». فى سطور أخرى غير واضحة يكتبها أحد المعتصمين فى عجالة «طلبات القوى العاملة الأراضى التى وزعت على المجالس المحلية من وزارة القوى العاملة فى سبيل التنازل عن المؤهل والوظيفة»!! يريدون إيقاف تبوير الأراضى الزراعية والبناء فوقها، يريدون حكومة قبل أن تعلن أسماء وزرائها أن تعلن برامج وخطط عملها التى تترجم مبادئ ومطالب الثورة وتحدد مواعيد إنجازها على أن تكون البداية ببرامج وخطط تحقيق العدالة الاجتماعية ورفع الحدود الدنيا للأجور ووضع سقف للدخول والمرتبات اللا إنسانية. هل صحيح أن واحدة من مستشارى وزير المالية السابق بطرس غالى كانت تتقاضى مرتبا شهريا 680 ألف جنيه؟ هل صحيح أنها لم تغادر موقعها إلا منذ أسابيع؟ هل صحيح أن لنفس الوزير 78سكرتيرا ومستشارا؟ يقول لى الخبير الاقتصادى د.صلاح جودة إن مصر بها 222 ألف مستشار يتقاضون 18 مليار جنيه سنويا.. لماذا لم يوقف هذا النزيف وأمثاله من جرائم نهب هذا الشعب وتوجه هذه الأموال وغيرها وأمثالها من أشكال ومخططات النهب وأموال ما أطلقوا عليه الصناديق الخاصة إلى تمويل مشروع قومى عاجل للعدالة والأمن الاجتماعى؟ لماذا لا تشكل لجان إنقاذ من خبراء اقتصاد وطنيين لبحث حالات المتضررين فى جميع محافظات مصر حتى لا يقعوا تحت مزيد من تضخم ميليشيات الفساد والاستغلال التى سيطرت عليهم واستعبدتهم طوال الثلاثين عاما الماضية؟ الأمثلة بلا حدود لتحويل الثورة من شعارات إلى مشروعات حياة وأمل وإنقاذ بشرط توفر نيات صادقة وجادة لحماية الثورة. لا حل ولا إنقاذ ولا مانع ولا عاصم من انفجار مخزون الألم والظلم إلا بقراءة صحيحة للتطورات التى تحدث فى مشهد ميدان التحرير، ولا عاصم ولا مانع من الزحف من جميع أقاليم مصر إلا أن تصل عدالة الثورة ورحمتها ورسالة الكرامة والكبرياء والاحترام إلى كل مواطن فى مصر، وتوفير جميع أسباب الثقة والاطمئنان والأمل والإحساس بأن الكل فى مكانه الصحيح، وأنه لن يتم استبدال قتلى وشهداء ثلاثين عاما بالقاتل، وأن التحية العسكرية ستظل مرفوعة ورافعة لإرادة المصريين. ملحوظة: لماذا تغيب عديد من القوى السياسية والأحزاب عن الالتحام بالميدان؟ هل مواءمة المصالح والمكاسب الخاصة تجعل البقاء بعيدا أفضل؟!