وصف الكثيرون بالداخل والخارج ثورة الخامس والعشرين من يناير بالثورة البيضاء، وذلك لأنها ثورة لم تندلع بنية اراقة الدماء أو التدمير او استخدام العنف ... ولا تزال الهتافات "سلمية .. سلمية" من أشهر ما يزال يتردد فى أذن كل من شارك فى الثورة واحدائها. وكان لدى الثوار كأفراد كل على حدة اقتناع وايمان بأننا شعب مسالم بطبعه، ولسنا من هواة العنف، حتى ولو قوبلنا بالعنف .. الى آخر تلك الأفكار النمطية التى صح بعضها، وأتى بعضها الآخر فى سياق الصفات التى نطلقها على انفسنا... وكنت أتعجب عظيم العجب عندما أجد من حولى يهتفون "سلمية .. سلمية" عندما تبدا قوات الشرطة فى الاعتداء على المتظاهرين او محاولة تفريقهم .. وأتساءل فى لحظات خاطفة قبل ان أقوم برد الفعل : كيف يهتف المعتدى عليه "سلمية"؟ .. وكأنه يحاول بث الفكرة فى عقول من حوله من المتظاهرين الثائرين .. لكن، لماذا لم نسمع أحد رجال الشرطة على الضفة الأخرى من نهر المظاهرات يهتف "سلمية"؟ حتى هذه اللحظة، لم أستطع تحليل الموقف او استيعابه، فأنا لست مؤمنا بأن الشعب المصرى شعب مسالم، ولست مؤمنا بأنه شعب يكره المتاعب والمشاحنات، وإلا فما سبب الاصوات التى ترتفع فى اى مكان وفى او وقت معلنة عن شجار محتمل، يتداخله الوعيد بالتمزيق اربا أو العاهات المستديمة .. الا مع السلطة .. تربى المصرى بطبعه يخشى السلطة (الحكومة - الداخلية) وبطشها .. وتربى على فكرة امشى جنب الحيط ربما يكون من الانصاف ان نقول ان اعدادا كبيرة ممن هتفت فى اليوم الأول للثورة، هم افراد لم يحدث بينهم وبين جهاز الشرطة وأفراده نوع من الاحتكاك أو المعاملة السيئة، او بمعنى اوضح "تجربة سلبية سيئة" .. فلم يتعرضوا لاعتقال تعسفى، او اهانة، او انتهاك لحقوقهم كمواطنين .. وهؤلاء فى غالبيتهم من المتعلمين حسنى المظهر الذين لا بأس بأحوالهم المعيشية .. الا انه تجمعهم فكرة الوصول الى الحرية .. وفى مخيلتهم احلام وطموحات شبه وردية توقعوا أن يكون مجرد ضغطهم الشعبى وهتافهم كفيل بتحقيقها، وأن بقاء ثورتهم بيضاء عذراء، سيكون كفيلا بتحقيق مطالبها وطموحاتها .. الا انهم سرعان ما أفاقوا من نواياهم ومقاصدهم البريئة على نيران وأنياب من فقد عذريته وبرائته منذ عقود ليست بالقليلة لو ان الثوار ظلوا فى الميدان يهتفون "سلمية .. سلمية" , ومكثوا هناك الى يوم الدين، لم يكن ذلك ليحرك الوضع السياسى قيد انملة، ولم يكن مبارك ليلقى خطابه الاول، فالثانى .. فالاخير ان الثوار كانت علاقتهم بالثورة، وآمالهم لمصر، وتعاملهم مع النظام، كل هذا كان يتم فى اطار "أفلاطونى عذرى" .. وكيف للحب الافلاطونى العذرى البرئ ان يحرك ضمير وشعور من فتك الفساد بشرفه وبعقله هنا بدات موجات اخرى فى التحرك, موجات من الجماهير التى لا تدرى ما هو الحب الافلاطونى، ولا تدرى كيف يكون المنطق فى ان اتلقى الرصاصة وأصرخ سلمية، ولا يدركون معنى " الحفاظ على المظهر المتحضر للثورة" .. تحركت تلك الجماهير، بناءا على الغريزة، الغريزة التى نمت بعد ان هتك النظام برائتهم .. غريزة الثأر، وغريزة العقاب من حرق مقر للحزب الوطنى، الى تحطيم صور ولافتات تحمل صور النظام السابق ورموزه وأسمائهم .. وانتهاءا حتى بالهجوم على أقسام الشرطة واستهداف رجال الشرطة، الذين كانوا يدا للنظام فى قمع الشعب والتنكيل به وجعله مساويا فى القيمة للتراب .. او ببساطة لانه أحد أكثر صور النظام حضورا فى ذهن المواطن وامام عينيه ولولا تلك الجماهير التى تحركها الغريزة الآدمية، والشهوة الانتقامية والتاديبة، لم يكن ليتغير شئ، فما دفع بمبارك لالقاء الخطاب تلو الآخر، سوى تلك الجماهير الغاضبة التى مثلت تهديدا حقيقيا للنظام فى الشوارع، ومثلت رد الفعل الذى لم يكن يتوقع أن يكون بتلك القوة ولا السرعة، جماهير اعتقد النظام انها فقدت نخوتها وقدرتها على الغضب، عندما انتزع برائتها ومزق كرامتها والقاها للكلاب الضالة ولولا هؤلاء الغاضبين وعنفهم - المبرر - لما طالعنا الخطابات التالية، ولا وصل الى الأمر الى حد التنحى، بعد ان شعر كل من يعمل تحت مظلة النظام انه لن يستطيع ان يعود حتى الى مكتبه ومبارك فى الحكم، وبقاء مبارك فى الحكم يعنى استمرار القطاع الغاضب العنيف من الثوار فى التربص به وبكل ما يمت بصلة للنظام ورحل مبارك .. وعاد الغاضبون الى منازلهم وبقى الافلاطونيون يهتفون : سلمية سلمية، الجيش والشعب ايد واحده.. وظل الافلاطونيون يكتبون فى صحفهم ويرددون فى وسائل الاعلام الثناء على المجلس العسكرى حامى حمى الثورة، ويرددون ثقتهم فى القضاء المصرى النزيه على مدار الزمان ومن هنا بدأت الثورة فى السقوط فلا المجلس العسكرى بقياداته وأعضائه ببريئين من دم ابناء مصر على مدار العقود التى مرت، ولا مستقبلهم الذى تحطم على صخرة النظام وآمالهم التى واراها التراب ولا القضاء المصرى بنزيه وفوق التشكيك، والا لما ظلت هيئته تعمل وتتقاضى المرتبات والمكافئات والأوامر والترشيحات من نظام عفن وأصبحت رائحته لا تطاق ان الثورة وان بدات سلمية التوجه، وظلت هكذا على اغلب الطريق، فانها لم تكن لتنجح لو لم يبدا أبنائها وحماتها الحقيقيون وهو الشعب فى التكشير عن انيابهم، عندما ادركوا ان هذا النظام لا تصلح معه العواطف والحب الافلاطونى العذري، بل لابد أن يعلم اننا لم نعد مراهقون يتبادلون الورود مع النظام املا فى حبه ومشاعره .. بل نحن بالغون وناضجون، علمتنا الدنيا كما علمنا النظام انه لن تتحقق الاحلام والآمال الا بالعمل الجاد والعرق والدم أيضا .. وان من يقف عقبة امام تلك الآمال والاحلام، ليتنحى جانبا، او يعلن فشله ويرحل .. او ليبدأ فى العناد والتجاهل، وليستعد للسحق تحت أقدام ثوار يعلمون ما يريدون، ويعلمون من معهم ومن ضدهم