التماسيح تنام في البحيرات الصناعية. هذه الصورة هي ما قفزت في الأذهان بعد أحكام البراءة على رجال مبارك. الأحكام صادمة.. أقنعت المتفرج من بعيد بأن الثورة في خطر، وأن مبارك لم يعد تمساحا كاملا، لكن نظامه ما زال تمساحا كبيرا، ينام تحت جسد الثورة ويجهز خطة انقضاض. كيف يمكن الإفراج عن قتلة الثوار؟! وهل تحتاج كل هذه السرقات العلنية أدلة جديدة لإثبات أنه كانت تحكمنا عصابة لصوص ومصاصو دماء؟! الأسئلة حارقة عند من ناموا 18 ليلة في ميدان التحرير من أجل قتل نظام التماسيح التي احتلت مصر، وحولت شعبها إلى مجموعات مذعورة لا تفكر إلا في لقمة العيش.. هل ستعود التماسيح؟ وهل ما زل نظام مبارك لديه قوة للعودة إلى الحكم والتحكم في مصر؟ السؤال ليس بهذه البساطة. والصدمة ليست في الأحكام، الصدمة قبلها بمراحل عندما قرر المجلس العسكري اختيار القضاء العادي لمحاكمات ما بعد الثورة. القرار كان جزءا من خطة السيطرة على الثورة (حتى لو كانت نية مساندتها صادقة ومخلصة). القرار كان يعني: وضع حصان جامح في حلبة ضيقة.. وإجبار الثورة التي غيرت هندسة الشوارع على السير في إشارات المرور. كيف يمكن محاكمة نظام بنفس القوانين التي وفرت له الحماية الكبيرة طوال 30 سنة؟! وهل يمكن لنظام قضائي عاش معاناة طويلة من سيطرة مبارك وتليفوناته وأوامره وتدخلاته أن يتخلص من الميراث الثقيل في أيام ويحقق عدالة الثورة؟! المسار الطبيعي للمحاكمات هو البراءة، لأن القوانين في عصر مبارك صممت لحماية العصابة.. واصطياد رجال مبارك في المزرعة لا هدف له إلا التهدئة، لأن الثورات لا تقيم عدلها بالمسار الطبيعي.. ولا يعني هذا المطالبة بمحاكمات الثورة، وضرب استقلال القضاء و سيادة الانتقام بدلا من سيادة القانون. نعرف أن الثورة لن تنجح إلا بالعدالة.. ونعرف أن من حق القاضي صاحب أحكام البراءات أن يعلنها بقوة: «لن أتأثر بميدان التحرير»، لأن التأثر في الأحكام بصوت الشارع أو همسات (أوامر) السلطة ضد استقلال القضاء وسيادة القانون. لكن الثورة ليست معركة عابرة بين وجهتي نظر، إنها التغيير الكبير الذي يعدل كل المسارات من أجل إعادة بناء جديدة. الثورة لا يمكنها أن تتوقف عند الانتقام من مبارك وكلاب حراسته القتلة وعصابته التي تشعر بالغدر، لأن جنتها سرقت منها. الثورة تحتاج إلى عدالة انتقالية.. عدالة تستوعب الانفجار الكبير. المحاكمات حتى الآن عشوائية ولن ترضي الثوار الذين تصوروا أنهم اصطادوا التمساح في ميدان التحرير. العدالة الانتقالية هي ممر العبور من الاستبداد للديمقراطية، التي عرفتها بلاد أخرى عاشت لحظة التغيير الكبرى، مثل جنوب إفريقيا وتشيلي والمغرب.. وكان هدفها الأول: تحقيق عدالة توفر ظروف إعادة بناء نظام جديد. العدالة الطبيعية لا تصلح للثورات.. والانتقام لا يحقق العدالة.. و العدالة الانتقالية هي منهج علمي يسهم في هدم النظام القديم ويمهد الأرض لنظام جديد عبر 5 مراحل، تطبق في مؤسسات الدولة الرئيسية (الشرطة والقضاء والإعلام ): 1- التطهير والمحاكمات: لكل من ارتكب جرائم قتل وفساد بشكل مباشر. 2- الاعتراف: لكي نعرف حقيقة ما جرى، ليس من أجل النميمة فقط، ولكن من أجل ألا يتكرر ما حدث. 3- إعادة الهيكلة: لوضع أسس جديدة في بناء هذه المؤسسات لتستوعب العناصر كلها وفق معايير لا تحرم أحدا فرصة التغيير، لكنها لا تتيح له استعادة السلطة من جديد. 4- التعويض (القانوني والمالي والمعنوي لضحايا النظام السابق). 5- الذاكرة: اختيار علامات أو أماكن تذكارية مثل أحد الأقسام أو مقرات الحزب الحاكم، لتكون -وبحالتها- رمزا كما حدث مع محارق النازي التي تركت على حالها لكي تراها الأجيال ولا تكررها. بعض الشطار في الحكومة يختصرون هذه العدالة الانتقالية في مشاريع للتصالح مع رجال الأعمال الفاسدين.. وهذه شطارة قاتلة لأنها تلف وتدور حول العدالة، وتحول الثورة إلى «سبوبة» منحتهم فرصة الجلوس في مقر مجلس الوزراء.