ليس هناك أعظم من يوم يلقى فيه المقاتل ربه شهيدًا، وهو يزود عن أرضه، خاصة وإذا كان الشهيد قائدًا فذًا في حجم الفريق عبد المنعم رياض رئيس أركان الجيش المصري، الذي استشهد في التاسع من مارس 1969، وهو بين جنوده علي الخطوط الأمامية للجبهة القتال مع العدو الصهيوني، ومنذ تلك اللحظة صار ذلك اليوم هو يوم الشهيد المصري، لنتذكر بكل إعزازٍ كل من رووا بدمائهم الذكية شجرة أماننا ووجودنا. كأنه زرقاء اليمامة التي أنبأت قومها بقدوم الأعداء على مسيرة ثلاثة أيام، لكنهم لم يصدقوها، فوقعت الحرب وانهزموا، وزرقاء اليمامة هي امرأة من منطقة اليمامة، سميت بذلك لزرقة عينيها، وقوتها لم تكن في حدّة إبصارها، لكنها في قوة بصيرتها وقراءتها للواقع. وليست كما يردد البعض أن زرقاء اليمامة ما هي إلا أسطورة، إذ تكررت في عصرنا الحديث، وبالتحديد في النصف الأول من القرن العشرين، وكان صاحب الرؤى هذه المرة، هو الشهيد عبد المنعم رياض، إذا ما عرفت أن الفريق أول عبد المنعم محمد رياض، هو من تنبأ في محاضرة له عام 1968 بما حدث للعراق الشقيق واحتلال أمريكا له، وزرع الفتنة بين مسلميه سنة وشيعة، إذ يقول: "إن بترول أمريكا سوف يبدأ في النفاد وستعمل على تطويق المنطقة سعيًا للسيطرة على بترول العراق، وذلك سيكون خلال ثلاثين عاماً تقريبًا من الآن"! أليس ماحدث للعراق الشقيق، منذ العام 1990، هو تأكيد حرفي لما قاله الفريق عبد الممنعم رياض؟! وتبلور ذلك في توريط صدام حسين لاحتلال الكويت، تلك المغامرة الطائشة التي كانت الذريعة الأساسية لتدخل القوات الأمريكية والبريطانية وغيرها لتدمير الجيش العراقي، ذلك الجيش الذي كان من أقوى ثلاثة جيوش بالمنطقة مع شقيقيه الجيش المصري والجيش السوري، واكتملت المأساة ليلة سقوط بغداد على أيدي تتار العصر في 2003، وبعدها اشتعلت الفرقة والانقسام بين أبناء الوطن الواحد فيما وجدته إيران فرصة كبرى للانتقام من العراقيين بتسييد رجالها هناك. ولم تتوقف رؤى الشهيد رياض عند حد القراءة الاستراتيجية لما يمكن أن يحدث، بل هناك أيضًا ما يؤكد عمق رؤاه الفكرية، ما تجده مما تبقى من أقواله المأثورة مثل "أن تبين أوجه النقص لديك، تلك هي الأمانة، وأن تجاهد أقصى ما يكون الجهد بما هو متوفر لديك، تلك هي المهارة" وهوعسكري من الطراز الأول ورائي استراتيجي واقتصادي، تمتد جذوره العائلية إلى محافظة الفيوم، وقد كان والده من أعيانها، لكن نسر مصر ولد بقرية سبرباي- مركز طنطا- محافظة الغربية في 22 أكتوبر 1919، تولى قيادة أركان القوات المسلحة المصرية، ويعتبر واحدًا من أشهر العسكريين العرب في النصف الثاني من القرن العشرين؛ حيث شارك في الحرب العالمية الثانية ضد الألمان والإيطاليين، وشارك في حرب فلسطين عام 1948، والعدوان الثلاثي عام 1956، وحرب 1967 وحرب الاستنزاف، أشرف الفريق على الخطة التي تم إعدادها لتدمير خط بارليف، ورأى أن يشرف على تنفيذها بنفسه وتحدد يوم السبت 8 مارس من العام 1969 موعداً لبدء تنفيذ الخطة، وفي التوقيت المحدد انطلقت نيران المصريين على طول خط الجبهة لتكبد الإسرائيليين أكبر قدر من الخسائر في ساعات قليلة، وتدمير جزء كبير من خط بارليف وإسكات مواقع مدفعيته في أعنف اشتباك شهدته الجبهة قبل معركة أكتوبر العظيم، التي تم تتويجها بالنصر، بعد استشهاد الفريق رياض بأربع سنوات بين جنوده على الجبهة في اليوم ذاته 9مارس 1969وتحقيق النصر العظيم. وليس غريبًا على مقاتل مثل عبد المنعم رياض تلك الشهادة على الجبهة فهو القائل: "أنا لست أقل من أي جندي يدافع عن الجبهة، ولابد أن أكون بينهم في كل لحظة من لحظات البطولة" "إذا حاربنا حرب القادة في المكاتب بالقاهرة، فالهزيمة تصبح لنا محققة، إن مكان القادة الصحيح هو وسط جنودهم وفي مقدمة الصفوف الأمامية". و الشهيد عبد المنعم لم يكن من جنرالات المكاتب، بل كان يتنقل باستمرار بين وحدات الجيش، ليرى على الطبيعة أحوال جنوده الذين كانوا يستعدون على قدم وساق لمعركة تحرير الأرض، وفى يوم 9 مارس كان على خط الجبهة الأمامي، ليزور عدة مواقع عسكرية، من بينها "الموقع نمرة 6"، ومن خلاله راح بمنظاره يلاحظ حركة العدو على الشاطئ الآخر من القناة، وفجأة انهالت دانات المدفعية الإسرائيلية على الموقع، لتطوله إحداها كما طالت الضابط الذى كان يرافقه، وبعد خمس دقائق ناداه الضابط: "إزىّ الحال يافندم؟"، لكنه لم يتلق ردًا، وتلقى عبد الناصر خبر استشهاده أثناء اجتماعه بالحكومة، وكان زلزالاً كبيرًا أثناء الجنازة فى اليوم التالى. وفي يوم 10 مارس 1969، احتشد مايقارب من مليوني مصري لتشييع جثمان الشهيد الفريق عبد المنعم رياض، رئيس أركان الجيش المصرى، والذى استشهد فى يوم 9 مارس، إذ نالت منه قذيفة إسرائيلية، وهو بين جنوده فى الخطوط الأمامية لجبهات القتال مع العدو الإسرائيلى. وكما تحدث عنه أصحاب الفكر والرؤى، ومثلما يقال" لا يعرف أقدار الرجال إلا رجال"، وهذا ما نلمحه فيما نقله الكاتب الصحفي "سعيد الشحات" في موسوعته " ذات يوم.. يوميات ألف عام وأكثر" عن الكاتب الصحفي الكبير الراحل محمود عوض، بعض ما دوّنه في كتابه "اليوم السابع- الحرب المستحيلة حرب الاستنزاف" حيث يصف الشهيد رياض قائلاً: "لم يكن منذ بدايته ضابطًا عاديًا، كان عاشقًا للعسكرية المصرية، مؤمنًا أنه لا حياة لمصر بغير جيش قوى يحميها، والجيش القوى يعنى الجيش الذى يستعد لحرب قادمة، وليس لحرب سابقة، يعنى التبحر فى العلم العسكرى". وينقل "محمود عوض" وصفًا لجنازة "رياض" على لسان مصطفى طلاس وزير الدفاع السورى الأسبق، حيث كان ممثلاً عن سوريا الحبيبة في الجنازة: "عشت فى القاهرة من قبل؛ إلا أننى فى ذلك اليوم فوجئت بأن شوارعها وميادينها اتسعت فجأة لكى تضم مئات الآلاف من المصريين، خرجوا بعفوية يشاركون فى الجنازة، وفى إحدى النقاط ذاب عبد الناصر من بيننا وسط الناس وهم جميعا يتدافعون إليه ليقولوا له: "البقية فى حياتك يا ريس، ولا يهمك يا ريس، الثأر ياريس، معك ثلاثين مليون عبد المنعم رياض يا ريس (30 مليون نسمة عدد السكان وقتئذ)، يضيف طلاس: "تطلعت حولى فوجدت أن طاقم الحراسة الخاصة ب"عبد الناصر" ذاب فى وسط الناس، ثم وجدت رؤساء الأركان العرب المشاركين يتحولون إلى مواطنين يغمرهم الانفعال". وفى كتاب "نسر مصر- عبد المنعم رياض حيًا وشهيدًا" للكاتب الصحفي عبد التواب عبد الحي، يقول " إننا أمام رجل لم يهدأ من البحث عن المعرفة، ليس فى مجاله العسكرى وفقط، وإنما فى شتى علوم المعرفة، كان قارئًا للفلسفة والتاريخ والأدب والشعر، وكان يهوى الاستماع للموسيقى، ويتحدث الإنجليزية والفرنسية بطلاقة ومعرفة واسعة، ويتعلم حتى يجيد اللغتين الألمانية والروسية، ويلم بالأسبانية والإيطالية. ولم يكن استشهاد "رياض" حدثًا عاديًا، فهو القائد الذى أوكل إليه جمال عبد الناصر مسئولية إعادة بناء الجيش المصرى من الناحية القتالية بعد نكسة يونية 1967، وكان قائدًا عسكريًا فذًا من طراز قيادات الجيوش التى تجمع بين العلم والتواجد بين الجنود فى ميادين القتال، وقد نعاه الزعيم عبد الناصر ومنحه رتبة الفريق أول ونجمة الشرف العسكرية التي تعتبر أكبر وسام عسكري في مصر.وتخليدًا لذكرى استشهاد الفريق رياض رئيس أركان الجيش صار يوم التاسع من مارس من كل عام هو عيد الشهيد المصري، تخليداً لذكرى الشهداء الأبرار. رحم الله الفريق أول عبد المنعم رياض شهيد مصر، الرائي الاستراتيجي العظيم الذي لم ينصت لرؤاه العرب وقياداتهم، خاصة ماحذر منه من أطماع تتار العصر في العراقوسوريا وجل المنطقة العربية، ورحم الله شهداء مصر العظماء من الجيش والشرطة والمدنيين الذين سالت دماؤهم الذكية، وهم يزودون عن أرض الوطن ضد الإرهاب وأذنابه ومموليه والمخططين له من دول الغرب والتتار الأمريكيين.