المهدي المُخلّص فكرة والفكرة لا تموت، هكذا يبدو حال فكرة المهدي المنتظر في الأديان الممتدة علي مدي الزمان والمكان، فالكثير منها تظهر فيها فكرة الرجل الذي يأتي في آخر الزمان ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت ظلما، وفكرة المهدي لا تقتصر علي الأديان السماوية الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلام)، بل تظهر الفكرة في الأديان الوضعية القديمة التي تعود في معظمها إلي بيئات قارة آسيا الزراعية النهرية، سواء في الحضارات العراقية أو الهندية أو الصينية القديمة، فالمهدوية وانتظار علامات يوم القيامة كانت ولا تزال مكوناً أصيلاً في التدين الشعبي عبر امتداد التاريخ. يري بعض المتخصصين في علوم الأديان أن فكرة المهدي المنتظر المعروفة في البيئات الإسلامية السنية والشيعية لا أصل لها، فالشيعة أخذوا الفكرة من الديانات السابقة علي الإسلام من بيئة العراق، ودمجوها في تراثهم الديني باعتبارهم حزباً معارضاً للسلطة الحاكمة (الأموية ثم العباسية)، فكانت المهدوية الملاذ النفسي لتعويض القهر والقتل الذي تعرض له العلويون وأنصارهم الشيعة، وكانت فكرة المهدي المنتظر ذات جاذبية قوية لكل الفئات المهمشة اقتصاديا واجتماعيا في مجتمعات الخلافة العباسية وقتها، لما يعد به من تحقيق للعدل المطلق »سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت جورًا وظلماً». ومن هنا رأت السلطة الحاكمة وكانت سنية ضرورة تبني أيديولوجيا مضادة تقوم علي نزع فكرة المهدوية من يد الشيعة، فظهرت فكرة المهدي المنتظر السني، وبدأت ماكينة إنتاج الأحاديث المنسوبة للنبي في إظهار أحاديث تتحدث عن المهدي السني، ولكن لأن فكرة المهدي في مضمونها كانت ثورية بالأساس، وقد تتعارض مع سلطة مؤسسة الخلافة السنية القائمة- آنذاك- فإن مهدي أهل السنة فقد هذا البريق وتم تقليص دوره إلي أبعد حد، وعُهدت له في الرواية السنية بمهام أخروية تتعلق بالتمهيد لعودة المسيح عيسي بن مريم، وبعض المهام الفرعية، وهكذا ظهر المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي وهو من مبتدعات أهل السياسة وتفاعلات الاجتماع البشري. وظهر أقدم تصور في التاريخ لفكرة المُخلص المنتظر في الحضارة السومرية القديمة، بحسب رشيد الخيون في كتابه »الأديان والمذاهب بالعراق»، وكان السومريون يرون أن الإله تموز هو المنتظر الذي يعود من عالم الموتي ليخصب عشتار ويجلب معه الربيع وتجدد الحياة، ثم انتقلت الفكرة إلي الحضارات البابلية والأشورية والأكادية لتأخذ مفهومها النهائي، لذلك لم يكن غريباً أن تنتشر فكرة المخلص في كل الديانات التي ظهرت في العراق مثل الأيزيدية والصابئة المندائية. وصاغ البابليون التصور الأكثر اكتمالاً لعقيدة المخلص المنتظر، فاعتقدوا أنه كلما استشري الفساد في الأرض وحكم أشرار الملوك وأخضعوا المؤمنين لدولة الظلم، فإن الإله ماردوك يعود إلي الأرض ليطهرها من الفساد والمفسدين، ويعيد دولة السلام والعدل، وهي فكرة انتقلت إلي الديانة الزرادشتية الفارسية، والتي تعتقد بأنه يظهر مخلص من نسل زرادشت يدعي »سوشيانت» بمعني المنتصر، علي رأس كل ألف عام، بهدف نصرة إله الخير والنور أهورامزدا في مواجهة إله الشر والظلام أهرامان، وينتهي التاريخ البشري بوصول المخلص الأخير الذي ينهي قوي الشر جميعاً ويقتل أهرامان بصورة نهائية لتقام مملكة الخير النهائية أي إقامة الفردوس الأخروي ببعث الموتي وحصول البشر علي الخلود. بالتزامن مع ظهور فكرة المخلص المنتظر في بلاد الرافدين، ظهرت الفكرة ذاتها في بيئة زراعية أخري؛ وهي الهند، إذ أدخلت الديانة الجينية فكرة المهدية علي يد مؤسسها »مهاويرا»، إلي الديانات الهندية لأول مرة، ويري ويل ديورانت في كتابه الموسوعي »قصة الحضارة»، أن فكرة المخلص أخذت أبعادها النهائية علي يد بوذا مؤسس الديانة البوذية، فقد اعتقد أتباع هذه الديانة أن الإشارات الخاصة بمجيء المنقذ في الكتاب المقدس للديانة الهندوسية »فيدا»، تنطبق علي بوذا نفسه، لكن الغالبية من أتباع الديانة البوذية، يرون أن المخلص المنتظر لم يأت زمنه بعد، وأنه سيأتي في آخر الزمان لينهي دولة الظلم باسم بوذا الخامس، بينما عرف المخلص في الحضارة الصينية باسم »يترتنكر» بمعني المبشر. ويري الكثير من أساتذة الأنثروبولوجيا أن فكرة المخلص المنتظر انتقلت من الديانات القديمة إلي اليهودية ومنها دخلت الفكر المسيحي والإسلامي، إذ تتطابق فكرة المخلص اليهودي مع ما وجد في الديانات الأقدم، إذ تعتمد الرؤية اليهودية علي إرسال يهوه (الله) منقذه ليخلص اليهود من هوان الأسر والاستعباد بين الأمم المختلفة، فظهر المسيح المخلص الذي سيحقق حلم إقامة الدولة اليهودية التي تنتهي معها دورة التاريخ البشري لتبدأ مملكة السماء والنعيم لليهود ويجعل الأغيار (غير اليهود) عبيداً وخاضعين لليهود. وعن ظهور الفكرة في اليهودية، يقول، أستاذ اللغة العربية ورئيس قسم اللغات الشرقية بجامعة القاهرة، الدكتور جمال عبد السميع الشاذلي، ل »آخر ساعة»، إن ظهور فكرة المسيح المخلص في اليهودية تعود إلي فترة السبي البابلي العام 586 ق.م عندما أسقط الملك البابلي نبوخذ نصر مملكة يهوذا اليهودية، ودمر مدينة أورشليم، نقل اليهود إلي بابل (جنوبالعراق)، وهناك بدأت فكرة »المسيا» أو»المشيخ» أو المسيح المخلص في الظهور كسند نفسي لليهود الذين تعرضوا لذل الأسر، ومعه بعض الإشارات الخاصة بالمخلص كونه سيأتي من نسل النبي داوود عليه السلام. وتابع الشاذلي: عندما أسقط قورش الكبير مؤسس الدولة الإخمينية في إيران الدولة البابلية، أمر بإعادة اليهود إلي أورشليم منهياً بذلك الأسر البابلي، فاعتبر الكثير من اليهود قورش الكبير هو المسيح المخلص، لكن مع الوقت بدأت تظهر معالم فكرة المسيح المخلص بعد التأثر بأفكار المهدوية المنتشرة في حضارات العراق القديم، إذ لم يرد أي ذكر للمسيح المخلص في أسفار التوراة الأصلية المنسوبة إلي موسي عليه السلام، لكن الفكرة انتشرت وقوامها أن المشيح أو المسيح المخلص سيأتي ليجمع اليهود من جميع أنحاء العالم ويقيم دولة لهم في أرض الميعاد، وهي دولة ألفية أي تستمر لمدة ألف عام، يخضع العالم فيها لسيادة اليهود. وشدد الشاذلي علي أن رؤية اليهود للمسيح المخلص كرجل قوي يقود جيوش اليهود ويقمع أعداءه، جعلهم يرفضون نبوة المسيح عيسي ابن مريم، لأنه جاء برسالة محبة وسلام، بما لا يتوافق مع مفهوم المسيح المخلص، وأشار إلي أن تغلغل فكرة انتظار المسيح المخلص، جعلت الحركة الصهيونية تستغل هذه الفكرة وتنقلها من الإطار الديني إلي الفعل العلماني، وعملوا علي استثمار الفكرة لخدمة المشروع الصهيوني بالزعم أن كل من ساندهم فهو المسيح، مثل بلفور وغيره، بل اعتبروا الحركة الصهيونية نفسها هي المسيح المخلص. أما في المسيحية فإن المسيح عيسي هو المخلص نفسه، والذي يعود في نهاية الزمان ويقيم يوم الدينونة، وهناك الكثير من الإشارات في العهد الجديد حول هذا الأمر، مثل: »وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء وحينئذ تنوح جميع قبائل الأرض ويبصرون ابن الإنسان آتيًا علي سحاب السماء بقوة» [متي 24: 30] يعود المسيح لكي يعلن بدء يوم الدينونة وحكم الرب وانتهاء التاريخ البشري وبداية مملكة السماء. من جهته، يري الباحث في التاريخ الإسلامي محمد نجم، أن فكرة المخلص المنتظر تعرف في الإسلام باسم المهدي المنتظر، والتي لم يأت فيها أي نصوص قرآنية أبدا، ولكنها تستند علي مجموعة من الأحاديث النبوية التي لا توجد في صحيحي البخاري ومسلم، مضيفا ل »آخر ساعة»: »رغم أن الأدلة غير قوية علي صحة فكرة المهدي المنتظر، لكن الاستخدام السياسي للفكرة كان من القوة لدرجة طرح الفكرة ورفعها إلي مستوي العقيدة كما هو حاصل عند الشيعة، فالمهدي تحول إلي فكرة أيديولوجية قوية تجمع الفئات المهمشة داخل العالم الإسلامي ضد السلطة الحاكمة، وكان أنصار آل البيت من الشيعة الأقدر علي الترويج لهذه الفكرة بالاستناد إلي أحاديث نبوية تتحدث عن أن المهدي من نسل رسول الله صلي الله عليه وسلم، ويحمل نفس اسمه».