هل من الممكن أن يصل كاتب إلي القول، وما الفائدة من الكتابة؟ لكن الروائية السويسرية من أصل مجري أغوتا كريستوف (1935 _2016)، ذهبت إلي قول ذلك: "لقد صارت كل الأشياء سواء بالنسبة لي، حتي الكتابة. لقد اعطتني الكتابة الكثير، لكنها ما عادت تمنحني الآن شيئاً". توقفت الروائية أغوتا كريستوف عن الكتابة العام 2005، بعد صدور كتاب "الأمية: سيرة الكاتبة"، الذي أنا بصدد عرضه الآن بترجمة: محمد آيت حنا،(منشورات الجمل، الطبعة الأولي، 2015). يقول المترجم محمد آيت حنا: "في سيرتها المقتضبة تشير أغوتا كريستوف إلي أنها أصيبت بمرض القراءة منذ سن الرابعة وأنها لم تتوقف يوماً عن القراءة، إن علاقة أغوتا كريستوف بالقراءة والكتابة وحتي الحياة، علاقة مبنية علي مصالحة خاصة بالنسيان، بدل التذكر ثمة سعي حثيث إلي النسيان، وعوضا عن الكشف عن المقروء والتصريح بالخلفية التي أتت منها الكتابة ثمة عمل دروب يقوم علي المحو". ولدت صاحبة ثلاثية "الدفتر الكبير، والبرهان، والكذبة الثالثة"، في قرية تشيكفاند بهنغاريا، كان والدها مدرس القرية الوحيد. ثم اضطرت العائلة إلي الانتقال إلي بلدة كوزيرغ بسبب ظروف الحرب التي تسبب في سجن والدها وتشريد الأسرة، والالتحاق بمدرسة داخلية كانت أقرب إلي ميتم. في المدرسة الداخلية حيث الصمت إجباري بدأت في تحرير ما يشبه دفتر مذكرات قالت عنه: "اخترعت كتابة سرية حتي لا يتمكن أحد من قراءة مذكراتي". عندما بلغت سن الواحد والعشرين اضطرت بسبب مشاركتها في أعمال ثورية بأن تهاجر رفقة زوجها وطفلتها لاجئة إلي النمسا لتستقر في النهاية في مدينة نيو شاتل السويسرية. "أمس كان كل شيء أجمل/ الموسيقي خلل الأشجار/ الريح خلل شعري/ وفي راحتيك المبسوطتين كانت الشمس". فخر جدي عندما تريد والدتها معاقبتها علي أمر ما ترسلها إلي الوالد في المدرسة الذي بدوره يجلسها في المقاعد الخلفية مع كتاب مصور وعن ذلك كتبت:" هكذا إذن، أصابني دون أن أنتبه مرض القراءة الذي لا شفاء منه في الرابعة من عمري، أقرأ كل ما تقع عليه يداي أو عيناي: جرائد، كتب مدرسية، ملصقات، قصاصات ورق مطروحة في الطريق، وصفات مطبخ، كتب أطفال. كل شيء مطبوع". عندما كانت تذهب لزيارة أهل والدتها في مدينة تتوفر علي الكهرباء والماء يأخذها الجد ويجول بها علي بيوت الجيران لتقرأ عليهم الجرائد بطلاقة، دون خطأ وعن هذا الشعور كتبت: "باستثناء فخر جدي بي، لم تحمل لي القراءة إلا اللوم والاحتقار من قبيل، إنها لا تفعل شيئاً. تقرأ طيلة الوقت". في هذه المذكرات اعترفت أنها ماتزال تحس بتأنيب الضمير، حيث يذهب جميع الجيران إلي أعمالهم، وهي تجلس إلي طاولة المطبخ لساعات كي تقرأ الجريدة عوض أن ترتب البيت أو تغسل الصحون، عوض أن تغسل الملابس وتكويها أو تذهب إلي التسوق، عوض عن تحضير المربي والحلويات، وخاصة عوض أن تكتب. اللغة العدو تقول أغوتا كريستوف: في البدء لم تكن سوي لغة واحدة. الموضوعات والأشياء والأحاسيس والألوان والأحلام والرسائل والكتب والجرائد كانت هي تلك اللغة. لكن عندما بلغت التاسعة ورحلت من قريتها سكنت مدينة يتحدث سكانها الألمانية وبالنسبة لهم أي المجريين كانت تلك اللغة عدواً لأنها تذكرهم بالاحتلال النمساوي. وبعد سنة علي مغادرة القرية احتل البلاد الروس ففرضت اللغة الروسية في المدارس، واعتبرت أغوتا كريستوف أن ذلك بمثابة عملية تشويه ثقافي علي المستوي الوطني، قوبل بمقاومة سلمية طبيعية، مقاومة غير مركزة. وعندما وصلت في سن الواحد والعشرين سويسرا استقرت في مدينة يتكلم سكانها الفرنسية، فتقول: واجهت لغة مجهولة تماما بالنسبة لي. وهناك بدأ نضالي لقهر تلك اللغة المركبة، نضالاً محتداً وطويلاً، نضالاً استمر طيلة حياتي، وتضيف: "أتكلم الفرنسية منذ أزيد من ثلاثين سنة، وأكتب بها منذ عشرين سنة، ومع ذلك مازالت لا أعرفها حق المعرفة. لا أستطيع أن أتحدث بها دون أخطاء، ولا أستطع الكتابة بها دون الاستعانة بالمعاجم التي أرجع إليها دائما، مكرهة أنا علي الكتابة بالفرنسية. إنها تحدٍ تخوضه امرأة أمية". وكيف يصبح المرء كاتبا؟ فتجيب: حين نكتب بإصرار وأناة، دون أن نفقد البتة إيماننا فيما نكتبه. ينبغي في البداية أن نكتب، ثم ينبغي بعد ذلك الاستمرار في الكتابة. حتي لا يثير الأمر اهتمام أحد. حتي يتملكنا الانطباع بأن كتابتنا لن تثير قط اهتمام أحد. حتي حين تتراكم المسودات في الدرج وننساها بينما نكتب أخري.