في كتابه دليل السيناريست (العنوان الأصلي: رحلة الكاتب: البنية الحكائية للكاتب) يحدد كريستوفر فوجلر بنية الأسطورة أو الحكاية التي ينتظم فيها الفيلم الهوليوودي (باختلاف أنواعه الدرامية من التاريخي للرسوم المتحركة). وعلي طريقة فلاديمير بروب يحدد عناصر تلك البنية في: 1 العالم العادي (حيث نري البطل في حياته العادية الروتينية غير القابلة للإدهاش) ثم 2 نداء المغامرة (حيث يتعرض البطل لحادث وصول أو غياب أو تتقاطع خطوط حياته مع خطوط حياة آخرين) ثم 3 رفض النداء (يتردد البطل في الاندفاع وتلبية هذا النداء، فحياته بقدر ما هي عادية بقدر ما هي آمنة) ثم 4 لقاء المنتور (يلتقي البطل بشخص أو بموقف يكون بالنسبة له كالهادي أو كالدليل الذي يقنعه بأن مخاطر الرحلة أقل بكثير من مخاطر الاستمرار في كل هذه العادية المحيطة به) ثم 5 اجتياز العتبة الأولي (يتخذ البطل قراره). وهكذا يبدأ الفصل الثاني من الرحلة (رحلة الكاتب ورحلة البطل) حيث 6 يدخل البطل في التجربة (وعليه تبدأ خريطة الدراما في التشكل ويتخذ الموالون والمعارضون مواقعهم فيها) ثم 7 الاقتراب من الكهف (يبدأ البطل في التحضر للدخول إلي قلب الكهف أو إلي قلب التجربة أو يبدأ في الاستسلام طواعية للانجراف مع التجربة) ثم 8 الاختبار (يتعرض البطل لاختبار مهم، يجد نفسه في قلب معركة، في وسط صراع.. بين الواجب والعاطفة، بينه وبين القدر، بينه وبين نفسه) ثم 9 استلام السيف (يمسك البطل أخيرا بجائزته، بمكافأته، يقترب من امتلاك حياته، من امتلاك المعرفة). ثم يبدأ الفصل الثالث 10 طريق العودة (يبدأ البطل في استعادة حياته وانتظام أنفاسه مرة أخري متصورا أن الرحلة قد انتهت عند هذا الحد، وأن بإمكانه مغادرة الكهف والعودة لبيته، أو أنه قد نجا من الخطر) ثم 11 البعث (تتجمع قوي الشر مرة أخري للإطاحة بالبطل، للوقيعة بينه وبين المحبوبة، لكنه ينجو مرة أخري، وفي اللحظة التي نظن فيها أنه قد مات/انتهي أمره إذ به يعود/يُبعث/يتجدد أمله) ثم أخيرا 12 العودة بالإكسير (يعود البطل لحياته وقد اكتشف معني حياته، أو اكتشف أن في عادية حياته الرتيبة جمالا ما، أو أن بإمكانه فعل أشياء لم يكن يتخيلها). بنية الحكاية أو الأسطورة التي يصفها فوجلر بشبكة التطريز هي ما تجعل رواية ما أكثر قابلية للانتقال من الفن السردي للفن السينمائي من روايات أخري. من يقرأ رواية "القارئ" للقاضي والكاتب الألماني برنهارد شلينك والتي صدرت ترجمتها مؤخرا عن دار روافد سوف يعرف أن دايفد هير (كاتب الفيلم المأخوذ عن الرواية) لم يبذل مجهودا كبيرا في صنع سيناريو جيد. فوفقا لبنية الحكاية نحن نري البطل مايكل بيرج (ذي الخمسة عشر عاما) في حياته العادية، في طريقه للمدرسة الذي لا يتغير، في درجاته المتوسطة، في علاقاته البسيطة بزملائه، وهي الحياة التي تتغير تماما بمصادفة قدرية حيث يلتقي بشابة (هانا) تكبره بمثل عمره، وتنقذه بإعادته للبيت بعد أو وجدته يتقيأ في الشارع. أما هو فإنه يعود بعد أن يتعافي (باقتراح من أمه التي لم تتصور ما تدفع ابنها إليه) ليشكرها. ثم يعود مرة أخري للاسبب، وهي بخبرة الأنثي تعرف أن عودته الثانية ليست من أجل الشكر، ولكن من أجل الحب. ومع القراءة يمكننا متابعة مايكل وهو يخوض رحلته كما لو كانت مرسومة بعناية من قِبل كاتب سيناريست محترف. لكن التوافق مع البنية الحكائية للسيناريو الهوليوودي ليس هو الشيء الوحيد اللازم لصناعة فيلم جيد، فيلم يتم ترشيحه للأوسكار. ففي الفيلم كما في الرواية الجسد المعافي لصبي يجد نفسه مسلوبا من جسد فائر وجميل لأنثي مكتملة. إنها لحظة قضم التفاحة. لحظة الاختيار التي لا نعرف كيف اجتزناها. يقول الرواي "علي مدار حياتي كثيرا ما فعلت أشياء لم أقرر فعلها (..) لا أقصد أن التفكير والوصول إلي قرار ليس لهما تأثير علي الفعل، لكن الفعل لا يتأتي بمجرد التفكير في شيء، ثم باتخاذ قرار بفعله، بل له مصادره، التي تخصه". يفصل الرواي هنا بين التفكير وبين الفعل، بين تردده للعودة مرة أخري لبيت هانا، وبين عودته فعلا. هذا الفصل الفلسفي من الأفضل أن نحتفظ به لنهاية الرواية، حين يكتشف ونكتشف أن هانا كانت تعمل كحارسة في معتقل لليهود، وأنها تسببت في مقتل العديد منهم، وأنها، أثناء محاكمتها، لن يكون لديها ما تدافع به عن نفسها. كما أنه من الأفضل الاحتفاظ به ونحن نتابع الحوار الوحيد تقريبا بين مايكل وأبيه. الأب، الذي يعمل كأستاذ للفلسفة ولديه كتب في كانط وهيجل، يقول لابنه "ألا تذكر كيف كنت غاضبا عندما كانت أمك، وأنت طفل صغير، تعرف ما هو الأفضل لمصلحتك أفضل منك؟ ولأي مدي بوسع الواحد أن يتصرف علي هذا النحو مع الأطفال، فهذه مشكلة حقيقية. إنها مشكلة فلسفية، لكن الفلسفة لا تعبأ بالأطفال، إنها تتركهم إلي علم التربية، حيث لا يكونوا في أيد أمينة. نست الفلسفة الأطفال". هذا الفصل بين الفكر والفعل، بين العقل والتجربة، هو ما يصنع المأساة الألمانية. الأطفال (الشعب الخاضع للسلطة الأبوية) الذين نستهم الفلسفة وأخضعتهم لعلم التربية اضطروا صاغرين للاستسلام لحكمة الآباء، لأن يمضوا في حياتهم فوق قضبان مُدت بدقة ألمانية مدهشة، لكنها دقة خربت الروح، وجعلت فعل القتل فعلا روتينيا "الجلاد ليس خاضعا لأي أمر. إنه يؤدي عمله، ولا يكره الناس الذين يعدمهم، ولا يأخذ ثأره منهم، إنه لا يقتلهم لأنهم عقبة في طريقه، أو لأنهم يهددونه أو يهاجمونه. إنهم مجرد أمر غير ذي بال بالنسبة لهم لدرجة أن بوسعه أن يقتلهم بالسهولة نفسها التي يمكنه بها ألا يقتلهم". حتي القتل تحول لأن يكون فعلا روتينيا، حتي أن الضابط المشرف علي القتل والذي يبدو ضجرا هو موظف عادي يشعر بالضجر لأن العمل لا يسير بطريقة جيدة أو لأن البطء الذي يسير به يمكن أن يؤخره عن موعد العشاء. إن علم التربية (والذي وُضع في يد مهندسي الرايخ الثالث) صنع نسخا محايدة من البشر تجاه كل فعل حتي فعل القتل. والبطل، مايكل، الذي تابع هانا أثناء محاكمتها دون أن تثير رؤيتها مرة أخري أي مشاعر من أي نوع يظل يفكر فيما تفعله هانا بالضبط. كيف تجيب عن الأسئلة التي توجه لها بهذه العجرفة غير المقصودة، وكيف - رغم إنكار زميلاتها-تعترف طواعية بكل شيء، بل إنها تسأل القاضي "ماذا كنت تفعل لو كنت مكاني؟ قصدت هانا أن تسأل سؤالا جادا. لم تكن تعرف ما الذي يتوجب عليها فعله أو إذا ما كان يمكنها عمله بطريقة أخري" أما القاضي فإنه بعد تجاوز لحظات ارتباكه يقول "هناك أمور لا يمكن للواحد ببساطة أن ينخرط فيها، يجب علي الواحد أن ينحي نفسه عنها، حتي وإن كان الثمن موته أو بتره". ويعلق الرواي "حديثه عما يجب وعما لا يجب علي الواحد فعله وتبعات ذلك لم يكن ردا عادلا علي جدية السؤال الذي طرحته هنا. فقد أرادت أن تعرف ما الذي يجب عليها فعله في موقفها تحديدا، وليس أن هناك أشياء يجب ألا تفعل". هذا الجدال هو جدال بين فلسفة وبين تربية، لكنه جدال عقيم، لأنه في نهاية المطاف يتجاهل الفعل، يتجاهل العالم الواقعي. حتي أن مايكل وبعد اكتشافه سر العجرفة غير المقصودة التي تظهر بها هانا، وبعد اكتشافه أنها تعترف بجريمة قاسية لتنكر جريمة في ظنها أكبر فضائحية: جريمة الجهل، فإنه - أي مايكل - يذهب للقاء القاضي ليخبره أن هانا رفضت ترقيتها في شركة سيمنز وسمحت لنفسها بالعمل كحارسة في المعسكر حتي لا ينكشف أمام الجميع أنها لا تقرأ، لكنه لا يخبر القاضي. في محاورة لهنري ميلر وردت في كتاب "بيت حافل بالمجانين" الذي ترجمه ببراعة أحمد شافعي يقول ميلر "أرحب باليوم الذي سيحل فيه الفيلم محل الأدب حينما لا تكون هناك حاجة إلي القراءة. أنت تتذكر من الفيلم وجوها وإيماءات علي نحو لا يحدث لك مطلقا من قراءة كتاب". والحقيقة قد يكون ذلك صحيحا إلي حد كبير ففي فيلم القارئ مثلا لن ينسي المشاهد أبدا الإيماءتين اللتين صدرتا عن كيت وينسليت وهي تمنح مغفرتها لديفيد كروس (مايكل)، ولن تعوض قراءة الكتاب الشعور الإيروتيكي الناتج عن مشاهدة الجسدين الحيين لكيت وينسليت (هانا) وديفيد كروس (مايكل) وهما يمارسان الجنس أو حتي وهما مضطجعين عاريين علي السرير. لكن المؤكد أن التزام السيناريست حرفيا بالنص الروائي يفقد مُشاهد الفيلم أحد أفضل العناصر في السرد ومن بينها: صوت الراوي، والاستطراد. في الفيلم تجلس أسرة مايكل علي المائدة. مايكل يريد أن يعاود الذهاب للمدرسة. الأم ترفض لأنه لم يشف نهائيا بعد. الأب يصمت لحظة ثم يوافق علي عودته للمدرسة. تلك لحظة علي الشاشة، لا يمكنها أن تكون أكثر من ذلك. لكن في الرواية يمكن توقيف الصورة، الاستطراد لمعرفة كيف هي علاقة الأب بأسرته، فهم بالنسبة لهم كالحيوانات الأليفة، وجودهم مهم في حياته لكن كأشياء يمكن العيش بعيدا عنها. هذا الاستطراد القصير سوف يفسر الغياب الملفت للأب (وللآباء كلهم) طوال الأحداث، وهو الغياب الذي سوف يدشن مظاهرات الطلاب في عام 1968 لأن الطلاب إما أنهم لم يجدوا آباء وإما أنهم شعروا بالخزي بسببهم، وهو الشعور الذي يحاول مايكل تجنبه. هذا سوف يقودنا إليه الاستطراد السردي لكننا سوف نفقده أمام الشاشة. وفي النهاية لا يمكنني إلا الإشادة بالترجمة الجميلة للشاعر تامر فتحي، والتي جعلت من قراءة هذه الرواية (سهلة السرد) فعلا مدهشا بقدر مشاهدة الفيلم.