مع اقتراب عيد الأضحي تتطلع عيون المهتمين إلي ذلك الخير الوفير القابع وراء الأبواب، تلك الحصيلة الضخمة من الجلود المتخلفة من أضاحي العيد، حيث تبدأ عجلة تلك الصناعة المصرية العتيدة في الدوران بكل طاقتها؛ دباغة وصباغة، حتي تستقر بين أيدي عمالنا المهرة لتخرج مختومة ب: »صُنع في مصر».. أحمد علي، 39 سنة، أحد الفنانين المشهورين في التلاعب بقطعة الجلد الخام لتخرج من بين يديه تحفةً فنيةً تلفت انتباه الناس، جواكت وشنط وأحذية ومحافظ غاية في متانة الصنع وروعة الشكل؛ بدأ الأسطي أحمد الصنعة مبكرًا حينما صدمه قطار الفشل في التعليم فحصل علي الابتدائية بطلوع الروح، كما كانت ظروف الأسرة المتواضعة دافعًا له ليتجه إلي الحياة العملية باكرًا، إذ كان أبوه عاملا بسيطًا نزح من محافظة قنا، راجيًا قلب المدينة الكبيرة لتوفير موطئ قدم وكسرات خبز للأفواه الستة المعلَّقة برقبته، حتي إذا وهن العظم منه شد الله أزره بابنه أحمد الذي لم يعرف سكة »الملعنة» أو تشتكي منه كلاب السكك كما فعل أصدقاؤه، بل كان رجلًا قبل الأوان وأتقن فنون المهنة وشرب الصنعة علي يدي عم جمال العسكري أشهر صانع جلود في بولاق الدكرور كلها، حتي استطاع مساعدة أسرته وبناء كيانه المنفرد وورشته الخاصة بالدقي لتبدأ قصة أخري مع خامات الجلود التي يعرفها بحواسه كلها: يشمها، ويراها، ويلمسها، وأحيانًا يسمع اعتراضات بعض القطع بأنها لا تصلح لتكون شنطة وإنما هي حزام مُعتبر. يؤكد أحمد أن أسعار الجلود في »الطالع» بعدما ارتفعت أسعار الذبائح من الأبقار والماعز، مما يصرف الزبون عن الإقبال علي مصنوعات الجلد الطبيعي ذي الخامات الجيدة والصناعة الماهرة ليلجأ إلي البدائل الصيني من الكرتون المغلف التي تُباع بسعرٍ أرخص بكثير وتقضي حاجاته العملية ولو لوقتٍ قصيرٍ.. ويُضيف الأسطي أحمد بأنه رغم ذلك فإن للجلد الطبيعي مكانته وقيمته عند الزبائن الذين يُقدرون الفن والصنعة، وهؤلاء لا يهتمون كثيرًا بقدر تركيزهم علي نوعية الخامات ودقة الشغل، بل ولديهم القدرة علي استخراج العيوب مهما كانت دقيقة، وهذا الزبون »الفاهم» يُريحني كثيرًا لأني أضمن أنه سيشتري كميات كبيرة كهدايا قد تصل إلي آلاف الجنيهات ومن سُكات بل وسيُصبح زبونًا دائمًا لي. يُشير الأسطي أحمد إلي أنه يتمني أن يتعلم أبناؤه هذه المهنة التي أنقذت أسرته وفتح له ولمساعديه من الصناعية أبواب الرزق، خاصة أنها أوشكت علي الانقراض، كما أنها تحتوي الكثير من الفنيات التي لا تقل عن الرسم والنحت. عبد الهادي عباس